يتجه الكثير من المراقبين السياسيين والباحثين المهتمين بالعلاقات الدولية إلى القول بأن النظام العالمى الحالى ينزع ليكون نظاما متعدد الأقطاب أكثر من كونه أحاديًا خاصة بعد البروز القوى لعدد من القوى التقليدية والحديثة، لكن على الرغم من الجانب الصواب فيما ذهبوا إليه إلا أن الواقع يؤكد إلى حد كبير أحادية وقطبية النظام العالمى الحالى، فقاطنو البيت الأبيض والكونجرس الأمريكى والبنتاجون ووول ستريت وهوليوود هم الجوقة التى بأنغامها تنتظم مقادير نظامنا العالمى الحالى، ورئيس هذه الجوقة هو الموجه الرسمى لهذه الأنغام التى قد تكون صاخبة بحيث تشعل الحروب والدمار أو هادئة تبعث السلام والأمل، فرئيس الولايات المتحدة يعد الرئيس الحقيقى للعالم، ورؤيته للأمور والقضايا العالمية تؤثر بلاريب فى عالمنا المعيش.
فلا غرابة فى أن يهتم العالم بالسباق الرئاسى الأمريكى خاصة أبناء الشرق الأوسط للتعرف على ما يخبؤه المستقبل لهم، ولعل أبرز الأحداث فى هذا الشأن ترشح وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلارى كلينتون أوفر المرشحين الديموقراطيين حظا للفوز بالانتخابات الداخلية الخاصة بالحزب الديموقراطى كما أنها المنافس الأشرس الذى سيواجه من ينتخبه الجمهوريون لخوض الرئاسة عنهم، فقد تكون هيلارى بعد سنتين هى رئيسة الجوقة الأمريكية لذلك لابد من أن نستشرف واقعنا إذا ما أصبحت أول امراة تحكم الولايات المتحدة، ذلك باستشراف ما ستكون عليه سياسة الولايات المتحدة الخارجية فى عهدها إذا ما انتخبت رئيسة للبلاد خاصة تجاه منطقتنا.
فى البدء لا بد من التسليم بأن هيلارى تمثل تيارًا سياسيًا أمريكيًا يرى بضرورة إعادة توازن السياسة الخارجية، بحيث لا تركز فقط على منطقة الشرق الأوسط وأوروبا بل تتعداها إلى التركيز على شرق آسيا، ولعلها بلورت هذا التوجه فى فترة توليها لحقبة وزارة الخارجية خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكى باراك أوباما، حيث عملت على تقويض نفوذ الصين فى المنطقة من خلال تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع حلفاء الولايات المتحدة فى منطقة شرق آسيا وبحر الصين الجنوبى، وإيلاء المنطقة اهتماما سرعان ما ضعف عقب تركها لحقبة وزارة الخارجية وتولى جون كيرى لها، الذى صب جل تركيزه على قضايا الشرق الأوسط خاصة العمل للوصول إلى اتفاق نووى مع إيران، بالإضافة إلى تركيزه على الأزمة بأوكرانيا، وبالتالى أخل بالتوازن الذى كرسته كلينتون فى فترة ترؤسها للخارجية.
وبالتالى فإنه من المتوقع أن يخفت الدور الأمريكى فى حل نزاعات الشرق الأوسط، بل قد يتعدى ذلك إلى التخلى عن الالتزام بالدفاع عن بعض الحلفاء التقليديين فى المنطقة الشرق أوسطية خاصة دول الخليج العربى، وترك زمام الأمور فى المنطقة بيد إيران إذا ما توصلت طهران مع الغرب إلى اتفاق متوقع فى يونيو بشأن النووى، بالإضافة إلى إسرائيل المتغير الثابت فى معادلة السياسة الخارجية بالشرق الأوسط، وبالتالى اختلال ميزان القوى لصالح إيران وحلفائها بالمنطقة على حساب الفواعل الإقليمية خاصة الخليج ومصر، ورغم أن هذا السيناريو مطروح خلال العامين المقبلين فى عهد أوباما فإنه قد يتكرس فى عهد كلينتون بشكل كبير حتى يصبح واقعا معيشا لا فكاك منه إذا لم تتخذ دول الخليج ومصر الإجراءات التى تحول دون ذلك.
ولعل "عاصفة الحزم" والقوات العربية المشتركة التى تسعى الدول العربية لإنشائها بوادر جادة على تلمس العرب لهذا الخطر واستشرافهم لهذا السيناريو، كما أنهما دلالة على رغبة عربية لإنهاء الاعتماد الكلى على واشنطن للدفاع عنها وتحقيق توازن المنطقة، وتكوين تكتل إقليمى لموازنة قوة إيران وإسرائيل إذا ما تحقق السيناريو سالف الذكر، وإذا ما نجحت محاولات السعودية لإدخال باكستان وتركيا لهذا التكتل وضمان ولائهما الحقيقى له فقد يؤدى ذلك لتثبيت ميزان القوى لصالح المنطقة. فالفراغ المتوقع لمايسترو المنطقة الذى قد يحدثه التخلى التدريجى للولايات المتحدة عن شئونها لا بد أن يحل محله تكتل سنى حقيقى يضمن توازن القوى لأصحاب الكتلة السكانية الكاسحة بالمنطقة وهم السنة.
