عم درويش، صاحب كشك صغير لبيع الجرائد اليومية، من رجال الجيل القديم العاشقين لسعد باشا زغلول وزمن الطرابيش، كنت أشترى الجرائد من عم درويش وأجلس لأحكى معه قليلا قصص عن أحوال الناس واحوال البلاد. كان ينتهى الحوار بيننا غالبا على عبارة "مفيش فايدة" تلك العبارة الشهيرة التى قالها الزعيم الراحل سعد باشا. ولكن ما شد انتباهى ليلة الأمس أن الرجل كان مهموما أكثر من أى يوم سبق فسألته مالك يا عم درويش؟ فقال لى مقتضبا التعليم يا بنى التعليم.
استغربت من كلامه، كل ما يدور فى البلاد من مشكلات سياسية واقتصادية لم يؤثر فى الرجل الفقير، ولكن الذى أوغر صدره هو حال التعليم! فقلت متعجبا ما الذى حدث فى التعليم يا عم درويش؟ هل هناك جديد؟ فقال لى كل يوم يحدث جديد داخل أسوار المدارس، مشاكل عنف بين الطلاب والمعلمين وغش فى الاختبارات ومشاكل الدروس الخصوصية والثانوية العامة.
كان الكلام فى الصميم، لم أعرف كيف أعقب أو أقول للرجل المسن إلا أن أقوله له وما هو الحل من وجهة نظرك يا عم درويش؟ أنت من جيل تربى على القيم والأخلاقيات والمثل فما هى رؤيتك لكى نخرج مما نحن فيه من هم وغم؟
قال لى يا بنى، المشكلة أنكم تريدون أن تدخلوا إلى عقل الطالب من باب واحد رغم أن هناك مائة باب أخرى ولكن أنتم تصرون على الدخول من باب واحد فقط حتى وإن كان هذا الباب مغلقا بالسلاسل والأقفال الفولاذية.
فقلت له يا عم درويش نحن المعلمون لدينا العشرات من طرق التدريس المختلفة ننوع بينها، ولدينا وسائل متنوعة نستخدمها أثناء الشرح وفيديوهات تعليمية وتعليم تفاعلى وآى باد وإنترنت وكل ما يمكن أن تتخيله من طرق مثل التعلم التعاونى ولعب الأدوار والتعلم باللعب، فكيف تقول لى إننا ندخل من باب واحد لعقل الطالب؟
ابتسم الرجل وقال لى هل ترى هذا الباب؟ وأشار بيده إلى باب الكشك الخشبى، قلت له نعم. فقال لى تستطيع أن تدخل منه ماشيا على قدميك أو يمكنك الدخول منه على ركبتيك أو يمكنك أن تدخل منه وأنت على قدم واحدة أو يمكنك أن تدخل منه وأنت ترتدى رداء المهرج أو يمكنك أن تدخل منه وأنت مغمض العينين، وهذا بالضبط ما تقوم به أنت وزملاؤك فأنتم تنوعون من طرق الدخول لعقل الطالب، ولكن ما زلتم تدخلون من باب واحد.
فعلى سبيل المثال مادة العلوم، أنت تشرح الدرس من الكتاب المدرسى المقرر، كم طالبا يا ترى يدرس هذا الكتاب على مستوى الجمهورية؟ لنقل مليون طالب، فهل هذا الكتاب يتماشى مع عقلية المليون طالب؟ لهذا أقول لك أن التعليم أصبح حنتريش، كله كلام ومشاريع على الورق ولكن أثره بعيد جدا عن عقل الطالب وتفكيره وشخصيته.
كان زمان يأتى عندنا معلمون إنجليز للتدريس فى مدارس الأجانب، كان المعلم البريطانى يجلس أسبوع كامل يدرس عقلية كل طالب ثم يذهب ليصرف أموالا من خزينة المدرسة ليشترى مجموعة متنوعة من الكتب وكل طالب يختار الكتاب الذى يتناسب محتواه مع ميوله، المهم كان المعلم يحقق أهداف المنهج من خلال مقررات متعددة تتناسب مع طريقة تفكير كل طالب.
لقد كان التعليم ممتعا ومناسبا وكان الطالب يشعر بشخصيته وقدرته على الاختيار وتحمل المسئولية، ولم يكن للمعلم أى دخل بوضع الاختبارات، فكانت تأتى فى سرية تامة من هيئة خاصة مستقلة متخصصة فى القياس تختبر الطلاب وعلى أساس ذلك تضع تقارير عن المعلم والمدرسة والإدارة والوزارة بكل حيادية وبعيدا عن أى تدخلات.
بصراحة كلام عم درويش أعجبنى فقلت له سأطبق فكرتك فى فصولى، فنظر لى نظرة ساخرة وقال هل تعرف ما هى وظيفتى قبل أن أعمل فى هذا الكشك؟ قلت له لا، فقال بلهجة اليأس كنت معلما مثلك، وحاولت أن أكون مختلفا وأبتعد عن الحنتريش، ولكن النتيجة كما ترى أصبحت بائعا للجرائد، وأنصحك قبل أن تقف أمام الحنتريش أن تقوم بحجز الكشك المقابل على الناصية الأخرى من الشارع، فأنت بصراحة ستكون بارعا فى عمل الفشار على الكورنيش. فنظرت إلى صورة سعد باشا وقلت بصوت غاضب يبقى مفيش فايدة، خلينا فى الحنتريش عشان نعيش.
محمد محمد السعيد عيسى يكتب: قصة الحنتريش وعم درويش
السبت، 11 أبريل 2015 12:09 م