يحيى حسين عبدالهادى

أعظم مُحافظى الإسكندرية

الثلاثاء، 03 مارس 2015 01:09 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أنا مصرى صعيدى مِن مُحبّى الإسكندرية.. ومُحِبّى تاريخها وأبطالها.. كما أَحَبّها كثيرون مِن بينهم الراحل المُبدع «الشرقاوى» أحمد فؤاد نجم الذى تَرَك للأجيال رائعته «الإسكندرية» ومن أبياتها: كأنى فلاح من جيش عرابى.. مات ع الطوابى وراح فى بحرك.. كأنى نسمة فوق الروابى م البحر جاية تغرق فى سحرك.. كأنى كلمة من عقل بيرم.. كأنى غنوة من قلب سيد.. كأنى جوه المظاهرة طالب.. هتف بإسمك وراح معيّد.

إلى أن يقول: يا إسكندرية فيكى الغلابة.. ع الرزق يسعوا ولا يناموش.. نزل شبكهم فى بحر طامى.. طلع شبكهم على فشوش.. وفيكى بين البشر ديابة.. وفيكى فوق البشر وحوش.. وفيكى ناس مغرمين صبابة.. لو خان زمانهم ما بيخونوش.

تَشّرف بمنصب محافظ هذه العروس المصرية الخَلاّبة مئاتُ المُحافظين.. منهم من تركَ أثراً إيجابياً ومنهم تَرَك العكس ومنهم مَن مَرّ كأن لم يكن.. لكن أعظم مُحافظى الإسكندرية فى اعتقادى هو المُحافظ الشهيد محمد كُرَيّم.. واحدٌ من أولئك «الناس المُغرمين صبابة لو خان زمانهم ما بيخونوش».. امتزجت بطولته ببطولة الإسكندرانية فصارت شيئاً واحداً. كان السيد محمد كريم محافظاً للإسكندرية عندما اقترب الأسطول الفرنسى من سواحلها بقيادة نابليون ليلة 2 يوليو 1798، فبادر بإخبار مراد بك وأرسل له ثلاثة عشر ساعياً فى تلك الليلة طالباً منه إرسال قواتٍ «بلا إجابة»، فاحتشد الأهالى بما لديهم من سلاحٍ لا يُقارَن من حيث الكم ولا الكيف بسلاح الجيش الفرنسى.. احتشدوا على أسوار المدينة المتهالكة مشاةً ورُكباناً، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، ليس معهم إلا بنادق ورماح وحجارة، إلى أن دكّت مدافع نابليون الأسوار فظلوا يقاومون من البيوت.. وإليكم شهادة بوريين سكرتير نابليون الخاص فى مذكراته «دخل نابليون المدينة من حارةٍ لا تكاد من ضيقها تَسع اثنين يسيران جنباً إلى جنب.. وكنتُ أُرافقه فى سيره.. فأوقفتنا طلقات رصاصٍ صَوّبها علينا رجلٌ وامرأةٌ من إحدى النوافذ.. واستمرّا يطلقان الرصاص.. فتقدّم جنود الحرس وهاجموا المنزل برصاص بنادقهم وقتلوا الرجل والمرأة».. مصرىٌ ومصريةٌ استُشهدا دفاعاً عن هذا الوطن ولم يعبأ التاريخ بذكر اسميهما.. وغيرهما كثيرون من الذين لا نعلمهم ولكن الله يعلمهم.

ظل السيد محمد كريم يدافع بعد دخول الفرنسيين المدينة معتصماً بطابية قايتباى ومعه فريقٌ من المقاتلين، إلى أن كَلّت قواه وسقطت القلعة وأَسَرَه نابليون.

بدأ نابليون سياسة التودد للمصريين بعد سقوط المدينة.. فجمغ أعيان المدينة وأفرج عن محمد كريم أمامهم وردّ إليه سلاحه قائلاً «لقد أخّذتُك والسلاح فى يدك وكان لى أن أُعاملك معاملة الأسير.. ولكنك استبسلت فى الدفاع.. والشجاعةُ مُتلازمةٌ مع الشرف.. لذلك أُعيدُ إليك سلاحك وآمل أن تُبدى للجمهورية الفرنسية من الإخلاص ما كنتَ تُبديه لحكومةٍ سيئةٍ».. وقد ذكر ذلك أحد مؤرخى الحملة فيفان دينون وقال: «لقد لاحظتُ على هذا الرجل ملامح الذكاء والدهاء وكأنما كان يكتم عواطفه عنّا». طبعاً لم يُبدِ محمد كريم أى إخلاصٍ للجمهورية الفرنسية وإنما استمر إخلاصه لمصر لا للحكومة السيئة كما وصفها نابليون.. وهذا هو الفارق بين أن تُعارض وأن تَخون.. وظل يقود أعمال المقاومة سرًّا.. وتكررت حوادث اغتيال الجنود الفرنسيين فى الإسكندرية.. إلى أن أخفقت الكتيبة التى أرسلها نابليون إلى دمنهور وعادت مُكبّدةً بثلاثين قتيلاً وتأكّدَت الشكوك فى محمد كريم ووشى به بعض الخوَنة «دائماً موجودون» وقد أشار إليهم نابليون فى رسالته إلى قائده على الإسكندرية كليبر، حيث كَتَب إليه أنه علم ممن قدّموا إليه الأدلة على خيانة محمد كريم للجمهورية الفرنسية أن أمواله مطمورةٌ فى بئرٍ بالإسكندرية وأن بعض خَدَمِه يعرفون مقدار هذه الأموال ومكانها، وكَلّفه أن يستجوب هؤلاء الخَدم كيفما يشاء ليبوحوا بما لديهم من أسرار.. وإذا دفع محمد كريم فى خلال ثمانية أيام 300 ألف فرنك يبقى معتقلاً على ظهر إحدى بوارج الأسطول إلى أن تُتاح الفرصة لنقله لفرنسا.. وإذا لم يدفع على الأقل ثُلث هذا المبلغ فى خمسة أيامٍ يُقتل بالرصاص.. حدثت تطوراتٌ أدّت إلى نقله للقاهرة حيث تم استجوابه الذى انتهى بثبوت تُهمة مراسلة المماليك وعرب البحيرة لاستمرار المقاومة.. وأصدر نابليون أمره فى 5 سبتمبر 1798 بأن يُعدم رمياً بالرصاص ومصادرة أملاكه وأمواله، وسُمِح له بأن يفتدى نفسه بمبلغ 30 ألف ريال خلال أربع وعشرين ساعة.. فلم يقبل السيد محمد كريم أن يدفع هذا المبلغ وأظهر جَلَداً وشجاعةً أمام حكم الإعدام.. فقد ذكر المستشرق فانتور، كبير مترجمى الحملة الفرنسية، أنه نصح محمد كريم بدفع الغرامة قائلاً له: «إنك رجل غنى، فماذا يُضيرك أن تفتدى نفسك بهذا المبلغ؟»، فأجابه السيد محمد كريّم «إذا كان مقدوراً علىّ أن أموت فلا يعصمنى من الموت أن أدفع هذا المبلغ.. وإذا كان مُقَدّراً لى الحياة فلماذا أدفعه؟» وظلّ الرجل على إصراره إلى أن استُشهد رميًا بالرصاص فى اليوم التالى 6 سبتمبر فى القاهرة.. وأنا أميل إلى هذه الرواية التى لم يختلف معها الجبرتى إلا فى يوم الإعدام، حيث ذكر الجبرتى أن الرجل طلب من تُجار القاهرة أن يفتدوه فانشغلوا بأنفسهم.. الرواية الفرنسية أكثر مصداقية لعدة أسبابٍ، أولاً: لأنها من شهود عيان، بينما الجبرتى كان فى بيته.. وثانياً: لأنها من خصومه ولو كانت رواية الجبرتى صحيحة لما فاتهم أن يذكروها لكى لا يسبغوا شرفاً على خصمهم.. وثالثاً: لأن سيرة الرجل فى المقاومة تُنبئُ بمثل هذا الموقف.

فى سنة 1953، وبعد استشهاد المُحافظ البطل بأكثر من مائةٍ وخمسين عاماً قام رجال ثورة يوليو بتكريم الرجل ووُضعت صورته لأول مرةٍ مع صور محافظى الثغر فى مبنى محافظة الإسكندرية تخليداً لذكراه.. وأُطلق اسمه على أحد أهم شوارع الإسكندرية وقتها وكان اسمه شارع التتويج فصار اسمه «شارع السيد محمد كُريّم»، كما أُطلق اسمه على مسجدٍ كان تحت الإنشاء ليحمل اسم الملك فاروق فأصبح اسمه مسجد محمد كُريّم، وقد افتتح بعض قادة ثورة يوليو هذا المسجد بالصلاة فيه يوم الجمعة 27 نوفمبر 1953 بعد أن أزاحوا الستار عن الواجهة الرخامية التذكارية التى نُقشت عليها العبارة الآتية «بسم الله الرحمن الرحيم.. مسجد محمد كريم.. إكباراً للبطولة.. وتكريماً للذكرى.. واعتزازاً بالوطنية.. وإنصافاً للتاريخ.. رَأَت وزارة الأوقاف أن يُطلق اسم السيد محمد كُريّم على هذا المسجد فى حى رأس التين.. والسيد محمد كُريّم هو حاكم الإسكندرية وابنها البار وشهيدها العظيم.. اعتقله الجيش الفرنسى وقتله رميًا بالرصاص فى مدينة القاهرة بجوار القلعة يوم 6 سبتمبر عام 1798 وهو يُدافع عن أمته ويذود دَنَس الاحتلال عن شرف وطنه العزيز».

رًحِم الله السيد محمد كُريّم.. أعظم مُحافظى الإسكندرية.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

Alfons

لماذا لا نرى هذه الاحداث على شاشات التليفزيون بدلا من الكلام الفاضي الحالي في الاخبار

عدد الردود 0

بواسطة:

مدقق مالي / محمد الشافعي

شكرا للكاتب لبث الروح الوطنية

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة