مر عام على رحيل المبدعة الروائية رضوى عاشور «30 نوفمبر 2014»، رحيلها أعادنى فى العام الماضى إلى قراءة أعمالها، ويظل عملها المدهش «ثلاثية غرناطة»، «غرناطة - مريمة - الرحيل»، نموذجًا روائيًا مبهرًا فى استلهام التاريخ.. كتبت رضوى «الثلاثية» بلغة شاعرية جددت آهاتى عن فلسطين، ولأن «رضوى» ستبقى قيمة وقامة فى تاريخنا، أعيد ما كتبته هى عن نفسها، ونقلته أنا بعد رحيلها:
أشعر بالخوف من الموت الذى يتربص، وما أعنيه هنا ليس فقط الموت فى نهاية المطاف، ولكن أيضًا الموت بأقنعته العديدة فى الأركان والزوايا، فى البيت والشارع والمدرسة، أعنى الوأد واغتيال الإمكانية.
أنا امرأة عربية ومواطن من العالم الثالث، وتراثى فى الحالتين تراث الموءودة، أعى هذه الحقيقة حتى العظم منى، وأخافها إلى حد الكتابة عن نفسى وعن آخرين، أشعر أننى مثلهم أو أنهم مثلى. ولدت عام 1946 فى بيت يقع على النيل فى جزيرة منيل الروضة، وقضيت طفولتى المبكرة فى شقة بنفس المنطقة، تطل شرفتها على كوبرى عباس الذى فتحته قوات الشرطة قبل ولادتى بثلاثة أشهر على الطلبة المتظاهرين فحاصرتهم عليه بين نيرانها والماء.
كنت فى العاشرة حين أعلن عبد الناصر تأميم القنال، أذكر بحة الصوت، وإيقاع الكلمات كأنما سمعتها للتو من ذلك المذياع الخشبى فى القاعة البحرية فى بيت أهلى بالمنيل، كان الصوت يفسح للطفلة المنصتة أرضًا تخطو عليها مخلفة وراءها العيون التى تتعالى وتزدرى.
فى السابعة عشرة من عمرى التحقت بكلية الآداب جامعة القاهرة، واخترت أن أدرس الأدب الإنجليزى، وبقدر ما أحببت النصوص الكبيرة المقررة وغير المقررة بقدر ما أرهقنى ضوؤها الكاشف لضآلة إمكانياتى، ثم وقع الحادث المؤسف الذى حسم الأمر لسنوات طوال تالية.. قرأت قصص تشيكوف القصيرة، وكأنما سقط حجر علىّ أو دهمتنى سيارة فتركتنى معوقة الحركة، وجدت أنه من المعيب أن أواصل، قررت التوقف، وجاء قرارى قاطعًا كمقصلة تلح الكتابة فأقمعها، أكتب صفحات وأمزقها وأكرر على نفسى: لست كاتبة فلماذا سلوك الأغبياء؟
فى عام 1980، على فراش النقاهة بعد أزمة صحية ممتدة أمسكت القلم وكتبت: «عندما غادرت طفولتى وفتحت المنديل المعقود الذى تركته لى أمى وعمتى وجدت بداخله هزيمتهما، بكيت ولكنى بعد بكاء وتفكير أيضًا ألقيت بالمنديل وسرت، كنت غاضبة»، عدت للكتابة عندما اصطدمت بالسؤال: «ماذا لو أن الموت داهمنى؟»، ساعتها قررت أننى سأكتب لكى أترك شيئًا فى منديلى المعقود، وأيضًا لأننى انتبهت - وكنت فى الرابعة والثلاثين من عمرى - أن القبول بالنسبى أكثر حكمة من التعلق بالمطلق، وأن الوقت قد حان للتحرر من ذلك الشعور بأن علىّ أن آتى بما لم يأت به الأوائل أو أدير ظهرى خوفًا وكبرياء.
بدأت فى مشروع سيرة ذاتية، كتبت صفحات تغطى تجربتى الحياتية من سنة 1946 إلى سنة 1956، وكانت كتابة «الرحلة: أيام طالبة مصرية فى أمريكا» هى الورشة التى أقبلت عليها، واعية صفتها كورشة تأهيل، وأعتقد أن كتابة «الرحلة» أكسبتنى ثقة فى النفس، وخففت من وطأة السؤال: هل أصلح للكتابة؟، باختصار اكتسبت شيئًا من التصالح مع نفسى ككاتبة ممكنة، كان ذلك فى نهاية عام 1981.
لماذا العودة للتاريخ؟، سؤال طرحته على نفسى ولم أجد إجابة له صريحة، هل أحتمى بالتاريخ على ما فيه من ألم، من واقع تستريع النفس منه ولا تملك التعامل الهادئ معه؟، هل أبحث عن سند، عن فهم، عن إجابات، هل هو هروب أم مواجهة؟.
مقتطفات مما كتبته رضوى عاشور عن نفسها فى روايتها «سراج».. رحمها الله.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
علاء الدين حرب
مثلك مانحتاجه
تحياتى لكى يا استاذ الف الف تحيه