تتبع «اليوم السابع» فى هذا التحقيق قصة اثنين من المهاجرين السوريين من مصر حتى وصولهما إلى تلك القارة العجوز، فضلا عن التواصل مع أحد السماسرة الذين يقومون بتسهيل عملية الهجرة للسوريين مقابل آلاف من الدولارات.
الهروب إلى اليونان
لم تمنعه الصورة المؤلمة التى ظهر فيها الطفل السورى «إيلان» غريقا بعد أن قذفه البحر قرب السواحل اليونانية، من اتخاذ نفس قرار الهجرة غير الشرعية، الشاب السورى ذو الثمانية والعشرين عاما، لم يستطع البقاء كثيرا فى مصر التى جاء إليها منذ ما يقرب من العامين، فظروف الحياة القاسية التى يعانى منها المصريون أنفسهم دفعت هذا الشاب خريج كلية السياسة والاقتصاد جامعة بيروت، الذى يتحدث الإنجليزية بطلاقة، إلى الهجرة إلى أى من دول أوروبا.
فى لقاء جمع «اليوم السابع» بهذا الشاب- الذى نحتفظ باسمه- قبل أن يهاجر بأيام قليلة، كشف عن مصير غامض يدرك الشاب جيدا أنه مقبل عليه، ومع ذلك لم يتراجع عنه قائلا: «الإنسان الطموح ما بيهمه الخوف».
منذ بداية الثورة السورية فى مارس 2011، لم يستطع أى من أفراد الأسرة رؤية بعضهم البعض، حيث كان الأب والأم يعيشان فى منطقة تخضع لسيطرة نظام بشار الأسد، بينما كان الابن يعيش فى منطقة أخرى تقع تحت سيطرة المعارضة، وظل الحال كما هو عليه لمدة عامين ونصف العام، إلى أن قررت الأسرة ترك سوريا والفرار إلى مصر، وبالفعل التقى الجميع فى 13 يونيو 2013، وهو اليوم الذى يقول عنه الشاب: «استطعت لأول مرة أن أقبل جبين أمى بعد طول غياب».
«بيع الملابس» كان هو الخيار الذى لجأ إليه الابن، وذلك بعد عمله فى إحدى الشركات الخاصة المصرية، التى كانت تمنحه راتبا شهريا يصل إلى 1350 جنيها، ولكنه حسب كلامه لم يكفى نفقات أسرته وإيجار الشقة التى يقطنون فيها فى مدينة 6 أكتوبر، فضلا عن مصاريف دراسة شقيقته الصغيرة، الأمر الذى دفعه إلى مشاركة صديق له فى محل لبيع الملابس، وعلى حد وصفه كانت تجارة «مربحة» لكليهما فى بداية الأمر، إلا أن كساد الأسواق وعدم الإقبال على الشراء جعل العائد الذى يتقاضاه الشريكان بعد اقتطاع ثمن إيجار المحل وسعر البضاعة غير كافٍ لأى منهما، ومن هنا جاءت فكرة الهجرة بأى طريقة شرعية أو غير شرعية، يضيف الشاب: «اعترض والدى ووالدتى على قرار سفرى فى البداية، ولكن نظرا لإدراكهما خطورة الوضع الاقتصادى الذى نمر به وافقا على مضض».
استعد الابن للسفر من خلال الاتصال بأصدقائه الذين هاجروا قبله وشرحوا له أكثر من طريقة للهجرة أقلها خطورة هى السفر إلى تركيا بحجة السياحة، وهناك يستطيع الهرب إلى أى دولة أوروبية، وبالفعل قرر الشاب أن تكون وجهته إلى إسطنبول ومنها لأزمير، وبعدها يسافر إلى اليونان عبر البحر لمسافة 20 كيلومترا، وبعد وصوله سالما سوف يسلم نفسه للأمن حتى يحصل على حق اللجوء.
هذه هى السيناريوهات التى قالها الشاب قبل سفره، وبعد المقابلة بيومين كتب على صفحته الشخصية على موقع «فيس بوك»، «أستودعكم الله (أهلى.. وإخوتى، أصدقائى، أحبابى)»، وبتتبع آخر أخبار الشاب فقد وصل إلى تركيا ومنها اتفق مع أحد المهربين الذين نقلوه عبر البحر إلى اليونان.
حلم العودة لسوريا هو أكثر الأحلام التى يتمنى أن يحققها قائلا: «سوريا هى بلدى ورزقى وأهلى وسكنى.. بدى ارجع لها وأعمرها قسما بالله سوريا أجمل من دول أوروبا بأكملها.. فبلادى وإن جارت على عزيزة.. وأهلى وإن ضنوا على كرام».
الميلاد على مركب صغير
على مركب المهاجرين سمع الجميع صرخات الميلاد الأولى لطفل صغير، لم تستطع والدته الاحتفاظ به داخل رحمها أكثر من ذلك، ووسط ما يقرب من 450 مهاجرا، جاء الصغير ليبث فى نفوسهم مشاعر مخلوطة بين الأمل والضياع والحزن والسعادة فى آن واحد، من بين هؤلاء المهاجرين كان عماد السورى ذو الخمسين عاما، يقف غير قادر على استيعاب ما حدث ويتذكر الأسباب التى دفعته للهجرة من مصر إلى ألمانيا بهذه الطريقة التى لا يصفها سوى برحلة الموت.
عماد جاء إلى مصر فى إبريل 2015 ليلتحق بباقى أسرته التى هربت من نيران القصف فى سوريا، لم يستطع البقاء أكثر من ثلاثة أشهر، وبعدها قرر الهجرة هو ونجله وائل صاحب الـ24 عاما، فى اتصال هاتفى مع عماد من داخل أحد مخيمات اللاجئين بألمانيا قال: «قررت الهجرة لأن الحياة فى سوريا أصبحت مستحيلة وفى مصر أيضا مستحيلة، خاصة فى ظل تضييق السلطات لمنحنا الإقامة وعدم توافر فرصة عمل لكى أنفق منها على أسرتى».
تواصل عماد مع أحد السماسرة المصريين الذى اتفق معه على دفع مبلغ 2000 دولار لكل منهما، مقابل تهجيرهما عبر مركب صيد صغير، وكما يقول الأب فقد توجه كلاهما إلى محافظة الإسكندرية، وهناك كانت وجهته إلى أوروبا، وخلال الرحلة تنقل الأب وابنه بين أربعة مراكب إلى أن وصلوا إلى الشواطئ الإيطالية، يضيف عماد: «فى المركب الرابع كانت الخطورة الأكبر على حياتنا، فقد تجمع فيها مهاجرو أكثر من مركب إلى أن وصل عددنا 450 شخصا، رغم أن المركب سعته لا تزيد عن 250 شخصا فقط».
وأضاف عماد قائلا: «كنا كالسارقين.. نهرب من كل شىء نخشى أن يقبض علينا قبل أن نصل إلى غايتنا، قضينا ساعات رعب وموت خاطرنا فيها بأرواحنا، ولكن لم يكن أمامنا خيار آخر، يومين من ضمن 7 أيام هى مدة الرحلة بأكملها شربنا فيها من مياه البحر المالحة بعد أن نضبت مياه الشرب».
فى يوم 29 يوليو وصل المهاجرون لشواطئ إيطاليا ثم هربوا إلى ألمانيا عبر القطار، قائلا: بمجرد وصولنا سلمنا أنفسنا للشرطة التى وضعتنا فى معسكر اللاجئين لعرضنا على المحكمة التى تقرر منحنا حق اللجوء.
فى المعسكر يعيش حوالى 100 مهاجر من مختلف الجنسيات، وكما يقول عماد: «حياتنا طبيعية وداخل المعسكر توجد أماكن مخصصة للنوم وأخرى لتناول الوجبات، وثالثة لتعلم اللغة الإنجليزية والألمانية إلى جانب صالة للألعاب الرياضية».
منذ أسبوعين تقريبا حصل الأب وابنه على حكم مبدئى من المحكمة بالإقامة لمدة ثلاثة أشهر، يستطيعون فيها التحرك بحرية داخل البلاد، ومن المقرر بعدها أن يحصل كلاهما على إقامة لمدة ثلاث سنوات، ووقتها سوف يتقدم عماد بطلب إلى السلطات الألمانية للم شمل أسرته، وبالتحديد زوجته وابنته الصغيرة، بينما لن تستطيع ابنته الكبيرة «ديما» أن تلتحق به، لأنها وزوجها حاصلان على حق اللجوء فى مصر.
السماسرة وخط السير
علاقة السمسار بالمهاجرين لا تتعدى سوى تحديد موعد الرحلة وخط سيرها، والاتفاق مع أصحاب المراكب على تهريبهم ما دون ذلك تنقطع علاقة أى منهما بالآخر، إلا بعد أن يصل المهاجرون إلى وجهتهم سالمين، وقتها يحق للسمسار أن يحصل على المبلغ الذى اتفق عليه قبل الرحلة الذى يضعه المهاجر عند شخص محل ثقة بالنسبة لكليهما.
قصة وهمية اختلقتها «اليوم السابع» فى التواصل مع أحد السمسارة وهى محاولة إيجاد طريقة لهجرة صديقة سورية لا تستطيع البقاء فى مصر كثيرا، فكانت إجابته: إن رحلات الهجرة غير الشرعية متوقفة الآن، فمع بداية فصل الشتاء وبالتحديد شهر 10 من كل عام لا يتمكنون من القيام بهذه الرحلات بسبب ارتفاع الأمواج، مما قد يشكل خطرا كبيرا على المهاجرين، على أن يتم استئناف نشاطهم مرة أخرى مع منتصف شهر مارس المقبل، وأكد السمسار أنه لن يتسلم المقابل المادى الذى يبدأ من 2000 دولار إلا بعد أن يصل المهاجرون إلى مقصدهم.
وشرح السمسار خط سير الرحلة التى تستغرق الرحلة من 4 إلى 6 أيام، حيث تبدأ بجمع المهاجرين فى أتوبيسات تخرج إما من مدينة 6 أكتوبر أو الشيخ زايد أو رمسيس، حسب المكان الأقرب لكل مجموعة من المهاجرين، ومنها إلى محافظة الإسكندرية وهناك يستقل المهاجرون مركب صيد إلى إيطاليا ومنها إلى باقى الدول الأوروبية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة