رحمة وجدى تكتب: جدل بين الأخلاق والسياسة

الأحد، 25 أكتوبر 2015 02:00 م
رحمة وجدى تكتب: جدل بين الأخلاق والسياسة هتلر

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تثار إشكالية العلاقة بين السياسة والأخلاق باهتمام متميز فى هذه الظروف العصيبة التى ينبغى لتجاوزها أن نعد ما نستطيع من عزم وإصرار، الأمر الذى زاد من فرص حضور منطق القوة والعنف فى رسم مسارات حياتنا وتوجيهها، وتنامى شعور يميل نحو التحلل من الضوابط الأخلاقية وإباحة كل الطرق والوسائل لتحقيق أهدافنا السياسية ومصالحنا.

إذا كانت السياسة فى تعريفها البسيط هى طرق قيادة الجماعة البشرية وأساليب تدبير شئونها لما يعتقد أنه خيرها ومنفعتها، فالأخلاق هى مجموعة القيم والمثل الموجهة للسلوك البشرى نحو ما يعتقد أيضا أنه خير وتجنب ما ينظر إليه على أنه شر.

وكلتاهما -السياسة والأخلاق- تستهدفان امتلاك الناس رؤية مسبّقة تجعل لحياتهم هدفا ومعنى، وبالتالى تلتقيان على الدعوة لبناء نمط معين من المبادئ والعلاقات الإنسانية والذود عنهما، لكن تفترقان فى أن طابع المبادئ والعلاقات التى تعالجها السياسة تختلف نوعيا عن تلك التى تتناولها الأخلاق تصل إلى حد التعارض عند ميكافيلى الذى يغلّب السياسة على الأخلاق فى كتابه "الأمير"، ليظهر السلوك الميكافيلى كما لو أنه يتنكر صراحة لجميع الفضائل الأخلاقية حين يبرر استعمال كل الوسائل لتحقيق الغايات السياسية!!

لا يقصد إذا بالأخلاق فى ميدان السياسة حزمة القيم الشائعة عن الصدق والوفاء والشجاعة، على أهمية هذه القيم وضرورتها فى العمل السياسى النظيف، بل أساسا تلك العلاقة الشائكة والمعقدة بين الهدف السياسى والوسائل المفضية إليه، أو بمعنى آخر ماهية التحديات والمعايير الأخلاقية التى تعترض أصحاب غاية سياسية عند اختيارهم وسيلة نضال ورفض أخرى، أتستند هذه المعايير إلى محتوى الغاية أم إلى طابع الأساليب أم إلى القيم الإنسانية العامة ؟! وما صحة القول أن عدالة أى هدف تبيح عند أصحابه استخدام ما يحلو لهم من وسائل حتى لو داسوا بأغلظ الأقدام على خير ما راكمته البشرية من قيم ومثل ؟!

”صور العنف والجوع والجثث أعادت معضلة السياسة والأخلاق إلى دائرة الجدل الساخن، بين من يغفر اللجوء إلى كل الأساليب المتاحة لنصرة قضيته, وبين من يرفض ذلك مهما تكن الغاية نبيلة ”
أعاد الجو المحموم بالعنف ومناظر القمع والدم والجوع وصور الجثث التى تروعنا يوميا، هذه المعضلة إلى دائرة الجدل الساخن، بين من يغفر أو لنقل لا يعارض اللجوء إلى كل الأساليب المتاحة لنصرة قضية يجدها مشروعة وعادلة، وبين قائل بأن طريق القتل والعنف مسدودة ومليئة بالآلام والنكبات مهما تكن الغاية التى تقف وراءها نبيلة وسامية، مشددا على أهمية الأسلوب المدنى الديمقراطى بوصفه وجه النضال الوحيد المجدى .

ربما هى صرخة فى واد أو مدعاة للسخرية اليوم حين نستحضر مقولة تولستوى الشهيرة : "إن الشر لا يقتل الشر كما النار لا تطفئ النار"، أو نّذكر بسلوك رواد النضال السلمى كالمهاتما غاندى ومارتن لوثر كينغ ومن ثم نيلسون مانديلا، وقد نجحوا فى إيقاظ ضمائر الناس وحفز هممهم عبر مختلف الوسائل المدنية لمقاومة الاستبداد والاحتلال فى آن معا، ما حدا بالكثيرين إلى القول إن الشعبين الهندى والجنوب أفريقى ما كانا ليهنئا ببلاد ديمقراطية محررة لولا أسلوب النضال السلمى الذى أشاعه كل من غاندى ومانديلا كطريق رئيسة لنيل الاستقلال الوطنى.

بالمقابل يحكى أن هتلر كان يخفى تحت وسادته كتاب "الأمير" لميكافيلى لينام هانئا فوق وصيته الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة"، وتروى ذات الحكاية عن ستالين وموسولينى وفرانكو وغيرهم من الدكتاتوريين الذين أباحوا لأنفسهم استخدام أشنع أساليب القمع والاضطهاد من أجل غايات رسموها لأنفسهم وأهداف وضعوها فوق كل اعتبار !!

فالاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها خدمة لمصالح فئة أو جماعة سياسية على حساب جموع الناس ورغما عنهم، يقتضى استعمال ما يلزم من قهر واستبداد لفرض نظام سياسى من علٍ يروج له على أنه الخير العام، وتعاد من منظور أخلاقى صياغة التسميات والتوصيفات ليصبح كل معارض لهذا النظام أو مناهض لمصالح سادته، شرا مطلقا لا يستحق الوجود وحتى الحياة.

ليقلب الاستبداد كل المثل الخيرة والقيم الإنسانية كى يديم امتيازاته ويحمى مكاسبه فيعمم أخلاق الخنوع والذل والدجل والوشاية، الأمر الذى نبه إليه الكواكبى قبل أكثر من مائة عام فى نص لا يزال يحتفظ بحيويته ودفئه حتى اللحظة الراهنة "إن الاستبداد يتصرف فى أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها, هو يقلب القيم الأخلاقية رأسا على عقب ليغدو طالب الحق فاجرا وتارك حقه مطيعا، والمشتكى المتظلم مفسدا، والنبيه المدقق ملحدا، والخامل المسكين صالحا أمينا .

وتصبح تسمية النصح فضولا والغيرة عداوة والشهامة عتوا والحمية حماقة والرحمة مرضا، وأيضا يغدو النفاق سياسة والتحايل كياسة والدناءة لطفا والنذالة دماثة، وأنه -أى الاستبداد- يرغم حتى الأخيار من الناس على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غى نفوسهم آمنين من كل تَبِعة، ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح".

إن تغييب حريات البشر واستباحة حقوقهم هى مقدمة لا بد منها لقتل بنيتهم الأخلاقية الإنسانية، وبالمقابل فإن إرساء عقد اجتماعى على أسس الديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان يعتبر المناخ الأمثل لبناء علاقة صحية بين السياسية والأخلاق تضمن احتكام كلتيهما لنظام مشترك يحتويهما ويتجاوزهما.

فالأخلاق والسياسة ماهيتان مختلفان بطبيعتيهما، ومن المحال احتواء إحداهما للأخرى، لكن يمكن دمجهما فى تفاعل متبادل ترعاه أجواء الحرية والاعتدال، لأن الفضيلة السياسية أو الأخلاق فى السياسية لا يمكن أن تنمو عيانيا فى مناخات التطرف والعنف والغلو ومع غياب حقوق المواطنة والعدالة والمساواة والمشاركة. وقد ميز المفكرون والفلاسفة منذ أفلاطون الفارق الكبير فى البنية الأخلاقية بين الفرد الذليل والمدفوع وراء أهوائه ونزواته، وبين الذى يتمتع بكامل حقوقه الطبيعية المدنية والسياسية ويصبو لقيم الخير والحق والجمال والعدل، مما يجعل الديمقراطية الخيار الأكثر إلحاحا لبناء مجتمع معافى وإنسان سوى وأيضا لإرساء قواعد سلوك سياسى كفاحى تنظمه القيم الأخلاقية الإنسانية فى مواجهة أخلاق العنف وشيوع الأساليب البربرية فى حسم صراعات المصالح السياسية .







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة