قد يتصور البعض، توهماً، أن مصر قد انتقلت من الحضن الأمريكى فيما قبل الثورة، إلى الحضن الروسى فيما بعد الثورة، ولا فارق جوهرى بين الحضنين، إذ أننا لا نجيد فى مصر سوى دور التابع لا المتبوع، ولا نحسن القيام بدور صانع الألعاب. مع أننا نزعم بأننا بناة أول حضارة عرفها التاريخ، وأننا أحفاد الفراعنة الذين خلد الله حضارتهم من خلال الإبقاء على آثارهم حتى اليوم، شاهدة لهم أو عليهم.
وقد ارتمى فى أحضان هذا التوهم الأمريكان أنفسهم، حين تصوروا ألا عيش للقاهرة بدونهم، وأن مصر لا تقوم لها قائمة دون أن تمد لها واشنطن يد المساعدة والعون، ومن يعجز عن القيام بذاته يظل وجوده مرهوناً بيد غيره. وبنت أمريكا شراكتها الإستراتيجية مع مصر على هذا الوهم. ومن هنا كانت كلمة السيسى لوزير الدفاع الأمريكى فى أول لقاء بينهما سنة 2014م حين قال له: "رئيسكم يجهل تاريخ مصر"، حتى يستفيق الأمريكان من سكرتهم التى غيبتهم عن الوعى فى تعاملهم مع ثورة مصر، وقد ذهبت كلمته أدراج الرياح من فرط تأثير حالة السكر التى كان يعيشها الأمريكان حتى الثمالة، وقد قلنا إن هذا التصور متوهم -سواء عند الأمريكان أو غيرهم- لأنه لا يستمد وجوده من حقائق التاريخ، ووقائع الجغرافيا. فتاريخياً تناسى الأمريكان أن مصر كان لها الدور الفعال والحاسم فى إسقاط قطب التوازن الدولى حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضى المعروف: "بالاتحاد السوفيتى"، من خلال ما أطلق عليه فى حينه بالجهاد الإسلامى ضد قوى الكفر والإلحاد فى العالم، بمشاركة سعودية أمريكية، حين عملوا على إغراقه فى المستنقع الأفغانى، وأنها الدولة التى تجرأت على ذلك القطب بطرد خبرائه منها، فى وقت كان جرحها لا يزال ينزف بغزارة على رمال أراضيها المحتلة، فى حين أن الروس -ورثة الاتحاد المندثر- قد أدركوا هذه الحقيقة، ووعوا هذا الدرس، وعملوا بجدية استناداً على هذا الإدراك والوعى، فحين تفجرت ثورة يونيه فى وجه نظام الإخوان، اعتبرها الأمريكان انقلاباً، وأشاحوا عن مصر بوجوههم، وولوها أدبارهم، واستغشوا ثيابهم، فى حين سارع الروس بتأييدها، ومباركة أهلها، واحترام إرادة شعبها، قراءة صحيحة للتاريخ، ورؤية ثاقبة لحقائق الجغرافيا، ولكى ندرك ما أدركه الروس، لابد من النظر فى السيناريو البديل، فقد تصور الروس بقاء حكم الإخوان فى مصر، بحسب المخطط الأمريكانى فى تصعيد الإسلام السياسى إلى سدة الحكم، فوجده قد استقر فى تونس، وفى ليبيا، وامتد إلى سوريا من خلال جبهة النصرة وغيرها، وقد ظهر ذلك واضحاً فى خطاب مرسى فى الصالة المغطاة باستاد القاهرة الدولى، حين هتف: "لبيك يا سوريا"، وهو هتاف يعنى إعلان الحرب على النظام السورى، وتوريط الجيش المصرى فى هذا المستنقع، إلى جانب داعش والقاعدة وغيرهم، وفى حالة نجاح هذا السيناريو تكون الدول الموالية لروسيا قد سقطت جميعها. وهذا يعنى أن الروس قد فقدوا آخر موضع قدم لهم فى المياه الدافئة فيما بين شمال البحر المتوسط وجنوبه، ومع تقسيم سوريا بين الفرقاء يصبح من اليسير تمرير الغاز القطرى السعودى إلى أوربا عبر أراضيها، بديلاً عن الغاز الروسى الذى يتدفق عبر أوكرانيا وتركيا، ومع إتمام تسوية الملف النووى الإيرانى، ودخول الاستثمارات ألأوروأمريكية الضخمة إلى اقتصادها الجائع المتعطش، تكون قد اكتملت الدائرة، محققة بذلك هدفين، أولهما: خنق الدب الروسى وتجويعه وتركيعه، تمهيداً لترويضه، ثانيهما: الهيمنة المطلقة على منطقة الشرق الأوسط، والانفراد بها وإعادة ترتيبها، وتقسيمها، وترسيم حدودها، والقضاء المبرم على مشاكلها كمنطقة ملتهبة ساخنة متفجرة من العالم، بخلاف الإستئثار بمواردها وخيراتها المتدفقة، بما فى ذلك مصر الموحدة من أيام مينا.
كان هذا هو السيناريو الذى تبدت ملامحة، وارتسمت قسماته، أمام أعين القيادة الروسية، ولذا سنجد أنه بمجرد اندلاع الثورة فى مصر ضد الإخوان، بادر الروس بالترحيب بها، وإعلان احترامهم لإرادة التغيير لدى الشعب المصرى، لأنها بذلك قد قلبت المنضدة رأساً على عقب، وأعادت إرساء قواعد جديدة للعبة فى المنطقة، وألقت بطوق النجاة الأخير للقيادة الروسية، التى أحسنت قراءة المشهد السياسى، ودرست مسرح العمليات تاريخياً وجغرافياً، بالإضافة إلى خبراتها المتراكمة أيام الإتحاد السوفيتى . وفى ذات الوقت دفع الغباء الأمريكى الذى أفضى إلى محاولة خنق مصر وحصارها، مصحوباً بتبعية غربية مكشوفة مفضوحة فى ذات الاتجاه، بمصر إلى التولى شطر الشرق، وخاصة روسيا، فعادت علاقات الدفء والحميمية إلى سابق عهدها، وتقاطعت هنا المصالح المصرية الروسية فى أكثر من موضع، أولهما كسر طوق الحصار المفروض عليهما، إعادة القطب الروسى إلى المياه الدافئة، فى مقابل كسر العلاقة الاحتكارية التى تربط مصر بأمريكا، وتنويع هذه العلاقات، وسد احتياجات روسيا من المحاصيل الزراعية ـالتى تفاقمت بفعل الحصار، فى مقابل مد مصر بما يلزمها من أسلحة لمواجهة الإرهاب، والذى تفاقمت الحاجة إليه بفعل الحصار . أما فيما يتعلق بالمسألة السورية فقد تقاطعت كذلك مصلحتيهما، فنظام الأسد هو الحليف الذى تبقى للروس فى المنطقة، وقد أعلن بوتين صراحة، بأن روسيا لن تسمح بمرور الغاز القطرى عبر الأراضى السورية، ولو بعد ألف سنة . فمصالحها هنا قد تقلصت وأنزوت فى هذا الركن الضيق المسمى سوريا . أما مصر فبعد أن تآكلت أطراف أمنها القومى فى ليبيا والسودان والعراق واليمن، لم يبق لها سوى الدفاع عن كيان الدولة السورية موحداً، وقد التقت مصالحها فى ذلك مع روسيا، ليس انتقاماً من الشعب السورى، ولا ترفعاً عن مساعدته، ولا تأييداً لنظام الأسد، ولا رغبة فى رحيله . وسعيا معاً إلى تشكيل تحالف دولى مواز للتحالف الهزلى الذى شكلته أمريكا لمواجهة داعش، وقد ضم الإمارات والأردن . وما حدث ويحدث من الجيش الروسى انطلاقاً من سوريا كنقطة ارتكاز ما هو إلا إعلاناً مصحوباً باستعراض للقوة ينبئ عن وفاة النظام العالمى أحادى القطبية، وميلاد نظام عالمى جديد متعدد القطبية، أفليس للفراعنة دور فى صناعة هذا المشهد على الساحة الدولية؟.
حــســـن زايـــد يكتب: فى انتظار ميلاد نظام عالمى جديد
الجمعة، 23 أكتوبر 2015 10:15 ص
جانب من ثورة 30 يونيو - أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة