ننشر الرسائل الكاملة من الكاتبة ماجدة الجندى للروائى الراحل جمال الغيطانى: نحن بدونك بيت بلا سقف ولا أعرف نفسى بدونك.. وتهمس له: أطلت أنت فى عمر طفولتى حتى صرت جدة

الأحد، 18 أكتوبر 2015 07:30 م
ننشر الرسائل الكاملة من الكاتبة ماجدة الجندى  للروائى الراحل  جمال الغيطانى: نحن بدونك بيت بلا سقف ولا أعرف نفسى بدونك.. وتهمس له: أطلت أنت فى عمر طفولتى حتى صرت جدة الكاتب الراحل جمال الغيطانى
كتبت ابتسام أبودهب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أحب ضحكاتنا الفالتة من جمر حياة مشحونة، وأسعى جاهدة أن يقف الزمان عند تلك اللحظة التاريخية.. يا لروعة صفوك
كلماتٌ وحروفٌ خطتها الكاتبة الصحفية ماجدة الجندى، زوجة الروائى الكبير جمال الغيطانى، ذكرياتٌ عديدة كانت لها خير أنيس فى غياب زوجها بعد مرضه، فقد سردت الكثير من الذكريات التى حفظتها بذهنها وقلبها على مر السنين التى جمعتهما، سردتها على صفحتها الشخصية بموقع التواصل الإجتماعى "الفيس بوك" آملة أن يمنحها القدر فرصةً أخرى لصنع ذكرياتٍ جديدة، ولكن لا تأتى الرياح بما تشتهى السفن، فقد غادرنا الروائى الكبير لكنه لم يغادرها فحبه باقٍ فى قلبها بلا رحيل، كانت كلمات ماجدة الجندى بمثابة الرسائل التى ترسلها إلى حبيبها علّه يسمعها وهو غائب عن الوعى.

1- لا يمكن لأحد يتقاسم وإياك العيش "تأدية واجب"


دوماً يعترينى قبالتك "حزمة " متداخلة من المشاعر، احدها يقترب مما أحمله من مسئولية تجاه "ميدو" و " ماجي"، وأقواها فهو" الونسة"، وما بينهما خيوط زواج ورفقة وصحبة وزمالة واستاذية منك، وانبهار منى، واحتواء متبادل.
"الونسة "، هى بالضبط التى كانت طوال الوقت،" زاداً و زوادة "، والتى شحنتنى بها لمدى لا استطيع التكهن بحدوده، لا يمكن أن اتناول الطعام وحدى، حين يضطر احدنا الى أن يفعل ، تصف " الأكل" بأنه " تادية واجب"، اجلس على زاوية بعينها من كنبة فى حجرة المعيشة مساء، أقرأ، أرتب حاجيات، الأهم ، انتظر طلتك فيما بين الأوقات الفاصلة فى عملك، تأتى بكتاب "شوفتى ده "، أو تفاجأنى بسماعة على أذنى "اسمعى البشرف ده" ، تستشرف ما يجرى " فيه جديد"، أو لا هذا ولا ذاك، تمد يدك لى بأوراق أرصد من زاوية عينى خطك المنمنم عليها، دون كلام منك ولا سؤال منى اتلقى وليدا بعد لم يطلق صرخة ميلاده، وتعود صامتاً إلى المكتبة، وتلك هى النشوة والأكليل، اطلت انت فى عمر طفولتى حتى صرت جدة، جدة طفلة أو طفلة جدة، أنتظر " العيدية"، مع التكبيرات، استمرئ شعورا " بالكنة"، اتكاء على حضورك المتغلغل فى ذرات هواء بيتنا وكأنه السياج الدافع، الواقى من غيلات مبهمة، احتفظ بوعودك، أن تصحبنى فى سفر، أو بمعنى أدق اصحبك أنا فى سفر ."السفر" يكون معك، المتعة والاستكشاف، والبهجة... ولما اسافر وحدى بحكم العمل، فتلك "مهمة "، تشبه الأكل لسد خانة الجوع أو "تأدية الواجب".

2- مشغولة دوما بأصابعك الرفيعة المسحوبة


أخيراً..أخيراً وحدنا..ياه، يبدو انتزاع تلك المساحة الأثيرة كمكافئه لى بعد يوم طويل، عادة ماتكون قرب الحادية عشر مساء، تضع غطاء القلم الحبر فى القلم.
"تعالى يا جميل"، انا الجميل، جميل تلك " المجرة " الكونية، لا أسال، ولا أقتنص النظر، فقط من بعد كاف، تقع عينى على نقش أصابع يمناك، اه .. مشغولة دوما بأصابعك الرفيعة المسحوبة، التى فى الأصبع الأوسط من يمناك، تبرز قرب نهايته دائرة او زاءدة من الجلد السميك من طول الامساك والضغط على القلم، اتيه بأسرارى الصغيرة عنك، شعرة حاجبك المارقة، وكتفك.
3- لا اعرف نفسى بدونك
حمل محمد وماجدة جيناتك بقوة ، وكانت أمى رحمها الله تداعبنى و وجهها يغمره فرح يختفى تحت الغمز : "بتحبيه للدرجة دى .. !؟".
و كأنها تسترجع ما كان، ما كنت يوماً ابنة عاقة، ولا أذّكر أن بحياتى موقفاً خرجت فيه عن طوع أبوىَ، فلم أكن بحاجة أبداً، فقط لما استشعرت تردد أمى فى الموافقة على حقى فى الارتباط، قلت لها جملة فى خفوت، لو لم أتوحد به " لو ما تجوزتوش .. مش حا اتجوز"، وكانت واثقة إن دماغى حجر كما تصفه هى.
- بتحبيه ..!؟
- لأ .. بس ماعرفش نفسى من غيره

4- كف قبض على يدى فقبعت مستكينة..حتى اليوم


اتذكر اسبوع عسلنا الأول، لمّا رحت ترتب كتبك والأوراق ما إن وصلنا إلى حيث سوف نقيم، انتهيت من وضع صفى كتب، وأضفت عدة مجلدات هى أجزاء لرواية اسرة تيبو
لم اتفاجأ، فقط هاجمتنى موجة شقية، تكسّرت على أعتاب كف مسحوب الأصابع قبض على يدى واحتوانى، فقبعت مستكينة .. حتى اليوم

5- العطر


اطمئن إلى "الغمازتين"ً، إلى انهما غائرتين بما يكفى ان تلحظهما، اجرب الابتسامة، اوسعها حتى تظهر اسنانى، اعيد خط كحلة عينى، انتبه إلى "خبث" اختيار عطرى، سألتنى عنه قبل أربعين عاماً، أمزج عطرين أو أكثر حتى لا تشبهنى "أخرى" مهما تعطرت، كنت استمتع بمراوغة سؤالك لما تسألنى مستخدما الكلمة الفصحى "عطر"، لك غرام بالعطور، و بصانعى العطور فى سيدنا الحسين، أحدهم عم أحمد أخرج خلطة عطر رجالى اطلق عليه " الغيطانى"، تجلب صنوف عطور لم نسمع بها من أسفارك، تؤثر عطراً عمانيا، تتناثر قواريرك المنمنمة على المكتب، أمام مرآة الحمام، أو فى حقيبة أوراقك، لا تستخدم المتداول من العطور، ولا الأشهر ولا ما يستقر عليه الناس، كما أنك ايضا لا تتعامل مع زيوت "الحاج احمد " كما هى، يمكن أن اعتبرها " هواية" .. مزج وخلط، اضافة وحذف، فى مكتبتك اكثر من "رف" عناوينه محورها العطور، تاريخاً وجغرافيا وتصنيعاً، مكونات ، ودلالات، معانى وربما فلسفات.

6- "صفوك " و"هديرك "، كلاهما اجتياح


كم استغرقت انا من الوقت، للولوج إلى ثنايا خرائط روحك ؟، كيف انبسطت أمامى حقولك المترامية المسالمة، وكيف أمكن لخطوى أن يثبت فى "كونك" العامر، الثائر، الفياض، لا يمكن الحساب بزمن غير "ميقاتنا"، أهتف باسمك الذى ألفته واردد " جيمى"، ولا انتظر الرد، ومن طلتك يأتينى الجواب، أو الأذن "بالعبور" أو "السكون" أو "الأرجاء".

"صفوك " و"هديرك "، كلاهما اجتياح، "هداتك"، رقرقة .. زقزقة .. انسياب نهر تحفه شجيرات ياسمين، لم أعرف فى جغرفيا الطبيعة والبشر "ياسمينا " يحف بنهر الا عندك، شلالاتك عفية، فى الصفو والهدير.

7- غرامك" بالسمك المقلى "رصدته منذ البدايات


مضت أربعة "خمسان" لم أطهو خلالها "سمكا مقليا" ولا أرزا بالبصل وسلطة طحينة، ولا فاحت رائحة طواجنى، تمازحنى بإنك تزوجتنى فقط عشان بعرف أعمل "سمك"، وأزايد عليك "بخيلاء" كاذب، طيب والفتة..وداوود باشا..ودقية السبانخ بالحمص واللحم المفروم، التى كنت تقول إنها "مسكرة".
حين تقف عند مائدة الغذاء لمّا يتصدرها السمك منشداً: " السمك مقلى..كل وبرق لى"، زمان كنت تفعل ذلك حاملاً واحداً من ابنينا، العيد الصغير الأخير حملت "مالك" قلبك بأعوامه الأربعة، ذلك الحفيد الذى قلب حياتك وحياتنا رأساً على عقب، أو بالأصح "استعدلها"، و ذلك شرحه يطول، رحت تنشد معه، ونحن نردد وراءكما؛ السمك مقلى، كل وبرق لى"، بصوت تعمدته "أجشا..فخيماً..مرحاً" و قد تعمدت إضحاك مالك، يا لروعة صفوك.

كان خلافنا منحصراً فى "نوع السمك"، مع كل ما بذلت من جهود ايشى "قاروص" و "ايشى موسى" و " بربون "، ظللت وفياً لنوع بعينه، تقول لى أنه "سمك الفقراء" وأنه الأطيب مذاقاً، والأكثر مصرية، ولا تتوانى عن أن ترينى نقشه محفورا فوق جدران المعابد المصرية سابحاً فى نيل مصر، حضور هذا السمك البلطى "بالذات على المائدة، الذى لم يكن يقربه غيرك، أستمر كانه إشارة، رمز، استحضار، اجلستنى " الوالدة " ذات يوم إلى جوارك، ملأت طبقى سمكاً وأرزً، وبخجل راقٍ همست فى اذنى كأنها توصينى عليك "جمال بيحبه..كلى والله ده صابح ".

8- تواقة للفرح معك


مواسم "الصفو البهية" تعقب كمونك الآمن، تعلنها دندنات أغنية لم أعلم عنها إلا منك: نور العيون يا شاغلنى لمحمد أمين، هى اللحن ربما الوحيد الذى تغنيه همساً، ليلة أن انهيت التجليات خرجت من محبسك الإختيارى مبللاً بالعرق، انفاسك تتلاحق، ربتّ على كتفى ودعوتنى أن اسمع تسجيلاً نادراً "لرق الحبيب"، وقد كانت تلك اغنيتى التى هفوت دوماً لصفائها، وأعدت اكتشافها معك ككل ما أعيشه، كنت انت أشبه بمحارب خرج لتوه من معركة انتصر فيها، لكن دماؤه سالت، وكنت أنا دوما "تواقة " للفرح معك.

9- ماجدة .. ابنتنا


تمسد شعرها الأسود بأصابعك، تقبل ذقنها الدقيق، تتهاتفان بالساعات، تتكور فى"حجرك" بقدها الصغير مداعبة كفك بأناملها، تختار هى لك الجاكتات والبلوفرات وتعرف بدقة موديل البنطلون المريح، والفانيلات الصوف والكوفيات التى بلون الياقوت تختال بها مشيراً " ذوق الحبّوب .
تقسم بينها وبينك البرتقالة، تخصها بجلسات ما بعد غفوة القيلولة، تناديها "بالحبّوب" كان اتفاقنا انها "نفرتارى"، كنا نفاضل ما بين الجميلة قد اتت "نفرتيتى" وبين نفرتارى، وافقتنى واطمئنيت، واسلمت نفسى للطبيب .

لما القمتها صدرى للمرة الأولى منادية باسم دلع تصورته مناسباً "نفرت"، ضحكت بملئ فمك وقلت: لن ترد عليكِ..نادها باسمها : ماجدة .

نظرت إليك وانعقد لسانى وأمى تشاركك الضحك ويزيد عليه نوع من التيه، "مارضيش يا ستى، قال ماجدة يعنى ماجدة ".

فيما بعد صارت ماجى هى الطبعة الأنثويه منك، تحمل اسمى وكل جيناتك، التدفق الغامر، الجيشان الشعورى، الحنان غير المحدود، ما فى حوزتها للكل، الصرامة والتحديد، والأهم "صعيدية " حتى النخاع، لا تقبل ميوعة الرأى ولا طراوة المواقف، تزأر لو داس أحدهم على طرف واحد من اهلها، ولا تنسى أبداً ثارها، كانت تخوض معاركك، وانت ترجوها آلا تزج بنفسها وإنك الأعلم وإنك لا تحتاج وتعلن فى تهديد و وعيد عدم قبولك ولم تكن ترضخ.

10- كانت مرتى الأولى لعبور المحيط .. اصحبك، محملين بالرجاء والأمل .


كان فى حقيبة عبورنا الأول للمحيط عام 96، رغيفين، نعم رغيفين من العيش البتاو، جمدنهما فى الفريزر، وأنا اصطنع القهقهات، عن النوادر التى سوف يكتبها الأمريكان فى تقرير عن حقيبة ـالكاتب المصرى ـ والتى تحوى أحجاراً أثرية، وكدت تغضب منى، لكن رجل التفتيش عبر البتاو وتوقف عند الكيس البلاستيكى وبداخله البودرة الخضراء، باعدها ثم تمعن فيها وسأل ايه ده، قلت مانت "نعناع"، ولم يقتنع إلا بفتح الكيس وشمه، ورحت اخفف من الموقف ان الرغيفين البتاو لهما ما يشبه المكانة المقدسة فى معتقداتنا، وأن النعناع على الشاى من طقوس المباركة، وضحكنا ثلاثتنا، كان الرجل بشوشاً أدرك أنه امام اثنين يتشبثان .. برمق للحياه.

11- أرشوك بالشاى الأخضر كى ترفع رأسك لى ولو لدقائق


ايقنت فى سرى إنك تسمعنى، وتمارس أكثر ما كنا نتضاحك عليه، وأن شىء لم يحدث و أن غفوتك "قيلولة"، قيلولة تشبه غيرها، تتظاهر أنك لا تسمع كى تركن إلى واحة صمتك، فكرت فى الحيلة المأمونة، شايك الأخضر، أرشوك به كى ترفع رأسك الغائص فى الورق ولو لدقائق، تعود بظهرك للوراء، تتطلع إلىّ ببشاشة الرضى، مصحوبة بجملة غزلك شبه الوحيدة و التى تفتح كل الأبواب "ازيك .. يا جميل" .


12- نحن بدونك.. بيتاً بلا سقف


فيما بيننا تهمس بأجمل وأنبل ما يمكن أن يصل إلى إسماع امرأة، "يا جميل.. واحنا نسوى حاجة من غيرك "، طب ايه رأيك إنك طلعت مش عارف حاجة، وإن احنا اللى من غيرك، مأوى بلا جدران، وبيت من غير سقف، وأن انت الدلع والأحلام .


13- كان دوما يكفينى أن حسك فى الدنيا


"ازيك يا جميل" ..
أربعون سنة و فوقهم ثلاثة، تقول و تقول وفى الآخر كل الزخم تختزله كلمتان
"ازيك يا جميل".. فى الصبح والمساء..
"ازيك يا جميل" ..علامة الصفو .. وبرهان الصفح الجميل " ازيك يا جميل" ..
و حتى حين أحاول ايقاظك بعد القيلولة اليومية، ما بين الغفوة والصحو :" الساعة كام يا جميل، و كإنما هدانى الرب إلى ما يلخص ردى، الذى كان احياناً ما يدفع العيال إلى ضحك "حسك فى الدنيا"... نعم كان دوماً يكفينى أن حسك فى الدنيا ".


موضوعات متعلقة..


- عمار على حسن: رحل الغيطانى ولديه الكثير ليقوله








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة