فى محاولة لفهم أهمية فصل الدين عن السياسة فى العصر الحالى، يعكف الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى على قراءة مراجع حول الأزهر الشريف وتاريخه والتيارات المختلفة فيه، ومن بين هذه المراجع كتاب "تاريخ الإصلاح فى الأزهر" لعبد المتعال الصعيدى.
وأوضح حجازى، فى تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أنه يعرف كثيرًا عن تيارات الإصلاح التى تزعمها المجددون، ولكن لم يقرأ عنهم من قبل، مشيرا إلى أهمية الفهم الصحيح لموضوع خلط الدين بالسياسة لمواجهة التيارات الإسلامية وجماعات الإسلام السياسى بالحجة والبرهان.
كتاب "تاريخ الإصلاح فى الأزهر" يؤرخ فيه الشيخ عبد المتعال الصعيدى لمراحل النهوض والازدهار التى شهدتها مصر فى أعقاب سقوط بغداد على أيدى التتار عام 656ه، وبعد أن تصدى المماليك- حكام مصر فى ذلك الزمان- لهجمة التتار وأوقفوها عند حدود الشام، وأصبحت بذلك مصر مركز الخلافة الإسلامية بعد بغداد التى هجرها من بقى من بنى العباس ملوك بغداد، فجعل من بينهم المماليك خليفة للمسلمين فى القاهرة، وجعلوه رمزاً للسلطة الدينية ليستمدوا منه سلطتهم الدنيوية.
ووفد فى ذلك الحين إلى مصر كثير من العلماء وراجت سوق العلم، وظهر كثيرٌ من فحول العلماء الذين ضربت شهرتهم الآفاق، كابن حجر العسقلانى والمقريزى والعينى والسخاوى والسيوطى وكثير من أئمة الفقه والتفسير والحديث وعلوم العربية والتاريخ والفلسفة.
كان الأزهر حينها يقوم بنصيبه فى النهضة العلمية، ويشارك المدارس التى أنشأها سلاطين مصر بعده، كالمدرسة الناصرية، والكاملية، والشيخونية، والمؤيدية، والظاهرية التى رعاها المماليك، وتخصصت فى بعض العلوم، وكان بعض العلماء يؤثرونها بالتدريس، لأن بعضها كان يتبنى المذاهب الشافعية أو الحنفية أو المالكية أو الحنبلية، وبعضها اهتم بالحديث أو التفسير على وجه الخصوص، بينما كان الأزهر يتناول جميع العلوم، فتدرس فيه العلوم الدينية والعربية والفلسفة، ويقصده الطلاب على اختلاف مذاهبهم، ولم يكن خاصاً بالطلاب المصريين وحدهم، بل يأتونه من سائر الأقطار الإسلامية.
كان سقوط دولة المماليك عام 922ه بمثابة إيذان بضعف النهضة العلمية فى مصر، التى أصبحت ولاية تابعة للامبراطورية العثمانية، و"انحطت مكانتها بزوال دولتها"- على حد تعبير الشيخ الصعيدى- وسكنت فيها الحركة العلمية، وقل الإقبال على التعليم، لاسيما بعد أن صارت "التركية" لغة الدواوين، فضعفت العربية وعلومها وآدابها، وطغت اللغة العامية، حتى غلبت على لغة الكتابة والتأليف.. ولكن مع ذلك بقى الأزهر وحافظ على مكانته فى العالم الإسلامى، لأنه لم يعد غيره موئلاً للعربية وعلومها، وظل حافظاً لعلوم الدين واللغة، وأصبح محل تبجيل وتقديس فى سائر الأقطار الإسلامية، وهذا أغرى علماءه ومشايخه وطلابه فجمدوا على ذلك الحال، ولم يعودوا يرون أو ينتبهون لمواضع النقص والتقصير أو ضرورة التجديد، ولهذا السبب بالذات فقد رأى الشيخ عبد المتعال الصعيدى ضرورة إصلاح الأزهر لما "له علينا حق الاهتمام بإصلاحه وحق الاهتمام بتدوين تاريخه، ليستعيد بالإصلاح مجده القديم، فيفتح باب الاجتهاد فى العلم، ويعود لتخريج العلماء النابغين كحاله الأول" أو كما قال.
يروى الشيخ الصعيدى قصة طريفة فى معرض استعراضه لأحوال الضعف والتدهور التى أصابت مشيخة الأزهر أوان استيلاء الأتراك على مصر، حين عينت الأستانة أحمد باشا المعروف بـ"الكور" والياً على مصر، وكان شيخ الأزهر فى ذلك الحين هو الشيخ عبد الله الشبراوى، فلما وصل الوالى واستقر بالقلعة، ذهب وفد من علماء الأزهر لتهنئته وفيهم إمام الأزهر الشبراوى، ودار الكلام مع وفد العلماء فى مسائل العلم إلى أن دخل فى مسائل العلوم الرياضية، فأحجموا عن الكلام فيها، وقالوا لا نعرف هذه العلوم، فتعجب الوالى "كور" لكنه لم يقل شيئاً، إلى أن جاء يوماً قال فيه الباشا للشبراوى، الذى يتردد على القلعة كل جمعة ويخطب فى مسجد السراية: "المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت فى غاية الشوق إلى المجىء إليها، فلما جئتها وجدتها- كما قيل- "تسمع بالمعيدى خير من أن تراه". وحاول الشبراوى تأكيد أنها كما سمع معدن العلوم والمعارف، فجادله الوالى بقوله أين هى، وأنتم أعظم علمائها، وقد سألتكم عن مطلوبى من العلوم فلم أجد عندكم شيئاً وغاية تحصيلكم "الفقه والمعقول والوسائل ونبذتم المقاصد" عنى "بالمعقول" علوم المنطق والتوحيد، و"الوسائل" مثل علم النحو والصرف، و"المقاصد" علوم الرياضة والطبيعة والجغرافيا وما إلى ذلك.. فاعتذر الشيخ الشبراوى بلباقة واعتبر هذه العلوم من "فروض الكفاية"، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وأضاف أن أهل الأزهر غالبهم فقراء وهى علوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية، لا تتوفر للأزهر وشيوخه وطلابه.
المهم أن الشيخ الصعيدى أوضح من خلال تلك القصة حالة التدهور التى بلغها الأزهر مع تولى الأتراك أمر مصر، حتى انفرد بقيادتها لاحقاً محمد على باشا- 1220ه- وتصرف فيها باستقلال عن مركز الدولة فى اسطنبول، وعلى أميته أدرك ببصيرته ما يتهدد المسلمين إذا استمروا فى غفلتهم، ولم يأخذوا بالأسباب الكامنة وراء النهضة الأوروبية.. فبذل جهداً جباراً لينهض بالبلاد وليخلع عنها الثوب القديم البالى، فأنشأ المدارس الحديثة على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتخصصاتها من طبية إلى هندسية وغيرها، ونهض بالصناعة والزراعة والتجارة، ورفع اسم مصر فى الخافقين، لكن مع ذلك لم ينتبه أهل الأزهر، ولم تبعثهم جهود الباشا الكبير على العمل من أجل جعل الأزهر يساير إيقاع النهضة الجديدة، وأخذوا يعيشون فى تلك "العزلة المجيدة" بين جدران الجامع العتيق، وربما كان الشيخ حسن العطار هو الاستثناء الوحيد بين شيوخ الأزهر الذى انتبه لأهمية الإصلاح وضرورة مواكبة العصر، فقد كان له كسب من سياحته فى الأقطار الإسلامية كبلاد الشام وغيرها، وارتفع بذلك عند أهل الأزهر بعد أن عاد إليهم، كما اتصل بالعلماء الفرنسيين الذين جاؤوا مع الحملة الفرنسية، وبحث فى سر نهضتهم وقوتهم، بينما قعد غيره من علماء الأزهر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة