"أبدا لن أنسى ذلك اليوم الذى شاهدنى فيه أحد طلابى بالمدرسة، أحمل بيدى أدواتى كعامل للمحارة فى منزلهم الجديد، أقف على أحد الأرفف محاولا تهذيب هيئة إحدى جدرانه، منتظرا رأى والده الذى يتابع خطواتى جيدا، وحين التقت عينى عينه إذا به مُسرعا ليختبئ منى، حرصا على ألا يُعرضنى للحرج، وإذا به يغيب عن فصله فى اليوم التالى، لتطول فترة انتظارى له، لتوضيح أن عملى ليس عيبا وأننى أجتهد واخترت ذلك العمل عن اقتناع، ليقينى وأسرتى شر الحاجة"، كانت تلك إحدى المواقف التى تعرض لها معلم يعمل كمُبيض للمحارة.
فى عيد العلم الذى تعمل الدولة على تتويج معلميها فى ذلك اليوم تقديرا لمجهوداتهم فى إخراج أجيال يصنعون مُستقبل وطنهم، يروى عددا من المُعلمين قصصهم بنبرة فخر لـ"اليوم السابع"، لرفض الاستسلام للأمر الواقع، أو التضحية والخضوع لأقرب وأبسط الحيل للتغلب على ضيق الحال، وقد تكون أسهلها على الإطلاق "الدروس الخصوصية"، فقرروا الاحتفاظ برسالتهم كمُعلمين، مع حمل أدوات صنعة تُأمن حياة أسرهم.
كانت البداية مع "محمد.س"، مدير إحدى المدارس بمحافظة الجيزة، حاصل على بكالوريوس علوم وتربية عام 1997، وحصل على التعيين فى العام نفسه، يروى المعلم قصته فيقول: "أول مرتب حصلت عليه كان حوالى 86 جنيها فقط، له 6 أخوات حصلوا جميعهم على مؤهلات عليا ويعملون كمبيضين للمحارة أيضا، لأنها الصنعة التى تعلمناها من والدنا، لدى 3 أبناء، مرتبى الحالى هو 1812 عقب عمل 18 عاما من العمل فى التربية والتعليم، اضطررت للعمل لاحتياجى لزيادة دخلى، وعشان ربنا يغنينا بالحلال اتجهت للعمل ده بالرغم من أنى مدير مدرسة، ربنا يغنينا بالعرق والحلال أحسن من الدروس والطرق المشبوهة".
ثم ترك المُعلم من يديه أدواته ليواصل حديثه: "أغلب المُدرسين فى الوقت الحالى مرتاحين فى بيوتهم، لكن أنا شغال بعيدا عن أولادى، كل العاملين بمجال الدروس الخصوصية ارتاحوا على حس الفلوس اللى كونوها من الدروس، لكن أنا ماليش فى الدروس أو المجموعات، بروح البيت على 12 وفى بعض الأوقات بطبق فى الشغل، وأخرج على طول على المدرسة".
أما عن المُقربين له من أصدقائه فأكد أن جميعهم يعلمون عمله كمبيض للمحارة، مُضيفا: "أنا حالى أفضل من غيرى على الأقل فى أيدى صنعة، فى زمايل ليا بييجى الصيف مش بيلاقوا العيش الحاف، لا أنكر أن عملى هذا يؤثر على صحتى وتربيتى لأولادى لكن ده أفضل من أنى أمد إيدى، بقول ده أقل الخسائر"، أما عن الطلاب، فأوضح أنه كثيرا عمل بمنازل طلاب ملتحقين بالمدرسة التى يعمل بها.
واستطرد المعلم: "فى بعض الأوقات الموضوع بييجى صدفة، والد الطالب يتفق معايا من خلال واحد شكر له فيا وفى شغلى، وفى إحدى المرات شاهدنى أحد طلابى بالمدرسة أُحرج منى حتى أنه تغيب عن المدرسة فى اليوم التالى، اتحرجلى لما شافنى فى الموقف ده، لكن لازم أحنا الاتنين نتواجد فى المدرسة، ولما لاقيته اتكلمت معاه قولتله: يا بنى ده وضعى، وده شغلى، أنت مكسوف ليه".
أما "حسن.م"، فأكد أنه حصل على التعيين فى عام 1992م، وكان أول مرتب تقاضاه فقط 46 جنيها، ومع الحوافز وصلت حتى 68 جنيها، وهو مبلغ بالطبع غير كاف بالمرة لتناول وجبة من العيش الحاف، ليبدأ رحلة البحث عن عمل آخر بمجلات عديدة بالنجارة أو الكهرباء وأحيانا كسائق لتوكوك، مشيرا إلى أن الأمر لم يخل من الكوارث والحوادث، حيث فى عام 1998 وخلال إجرائه لبعض الإصلاحات بأحد كابلات الكهرباء، حدث انفجار به نتج عنه حروق فى وجهه فى كل أجزائه احتاج إلى أكثر من 2000 جنيه للعلاج.
وأكد حسن أن كل المحيطين به يعلمون أنه يعمل بأعمال أخرى بعيدة عن التدريس، ويروى قصته بالعمل كسائق لأحد التكاتك بحى الجيزة، فيقول: "فى إحدى المرات سمعت أحد الأشخاص فى أحد الشوارع المُظلمة يُنادى بصوت مرتفع "توكتوك"، على الفور توقفت وتوجهت إليه فإذا به أحد طلابى، لكنى للوهلة الأولى لم أتحدث إليه، وأوصلته إلى المكان الذى كان متوجها له، دون توجيه أى حديث له، وبعدما أوصلته جاء ليعطينى الأجرة، فنظر إلى وقال: "إزيك يا أستاذ؟" وأعطانى الأجرة ووضعتها فى جيبى دون حرج من ذلك، ورحلت".
وتابع: "لا يعنينى ماذا أعمل؟ أو ما مُسمى الوظيفة التى أعمل بها بقدر انشغالى عن كفاية بيتى من كافة مُتطلباته، عمل بالتعليم لمدة 22 عاما، مرتبه 1600 جنيه، يدفع منهم إيجار شقة ومصاريف المدرسة وأولاده، مما اضطره إلى البحث عن عمل آخر بعد الانتهاء من المدرسة"، وهنا يعترف محمد أن بحثه عن توفير أموال عجزت الوزارة عن إيجادها له، ترتب عنه ضرر كبير على مستوى تدريسه لطلابه، فحين الرجوع من العمل الساعة 12 مساء لا يُصبح الوقت مناسبا لتحضير الدرس، فقط يكفى للنوم للذهاب إلى المدرسة باكرا.
ويواصل سرد قصته: "وفى الصباح أبدأ تحضير الدرس أمام الطلاب أنفسهم بالمدرسة، مما يضيع وقتا كبيرا من الحصص فإذا كان للطلاب 4 ساعات شرح، أجد أننى أعطيهم منه فقط ساعتين، فلم يعد يهمنا الطالب أكثر من التحضير والكشكول حتى نتقى شر التفتيش والموجهين والتحقيقات، التى تعتمد فى الأساس على كتابة بعض الكلمات بالكشكول وليس مدى إجادة الطلاب لدروسهم، فمنذ عام 2002 أصبحنا ننتج دبلومات "فاشلة"، وغالبنا لا يعنيه سوى الجنيه، وشعارهم "أدفع عشان تعدى"، حتى أن الدروس وصلت لـ400 جنيه فى الشهر".
موضوعات متعلقة:
فى ذكرى عيد ثورتهم.. العشرات من حركات وائتلافات المعلمين يتظاهرون أمام "التعليم".. ويطالبون بتجريم الدروس الخصوصية.. وإلغاء شروط حافز الأعباء الوظيفية.. والوزارة تغلق أبوابها خوفاً من غضب المحتجين
"خوجة" بالنهار و"صنايعى" بالليل.. نرصد معاناة مدرسين لم يستفيدوا من "سبوبة" الدروس الخصوصية.. "حسن" عمل "كهربائى" بجوار عمله بالتدريس 22 عامًا ومرتبه 1200 جنيه.. و"محمد" مدير مدرسة ومبيض محارة
الخميس، 11 سبتمبر 2014 05:29 ص
مدرس داخل الفصل - أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
مرتبات وامتيازات ضباط الجيش
عدد الردود 0
بواسطة:
مصطفى
اللى مايعرفش
عدد الردود 0
بواسطة:
معلم خبير
ربنا يعوض علينا
عدد الردود 0
بواسطة:
مصطفى
اللى مايعرفش
عدد الردود 0
بواسطة:
احمدو ربنا ان انتم لاقيين وظيفة غيركم مش لاقي ياكل
احمدو ربنا ان انتم لاقيين وظيفة غيركم مش لاقي ياكل