إبراهيم عبد المجيد

قماشة الدين واسعة

الجمعة، 08 أغسطس 2014 07:10 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى الأديان فرق ومذاهب، كل فرقة تعتقد أنها الصحيحة ويغالى بعضها بأنها الناجية. والذى قرأ التاريخ يعرف الحروب التى قامت فى أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت. ويعرف المذاهب الأخرى الأصغر التى خرجت منها. ويعرف أن فى الشرق الكنيسة المصرية التى كانت الأسبق كانت ولا تزال الأرثوذكسية. حروب كثيرة حتى خلعت أوروبا رداء الدين بعيدا عن السياسة واستقرت فيها الحياة الديمقراطية. حدثت انقسامات أخرى طبعا سياسية لكن فى النهاية هى انقسامات لا مساحة فيها للسماء، ووراءها أهداف واضحة. توسع أو استعمار أو ديكتاتورية، ومن ثم لم تستمر أى من هذه الأفكار التى تحولت إلى «دين» كثيرا. النازية لم تستمر أكثر من 45 سنة والشيوعية كانت أطولها، سبعين سنة. وبدا أن أوروبا استقرت وهى بالفعل استقرت على الليبرالية وتجلياتها المختلفة من حرية وإخاء ومساواة. تجليات أيضا لا تنتصر للحرية إذا صارت افتئاتا أو ظلما للقوى على الضعيف ولا للغنى على الفقير فدور الدولة تحت عين وبصر الشعب تقوم بالتدخل فى الاقتصاد مثلا عند اللزوم لتظل الفرص متساوية وتنزع إلى قرارات اقتصادية مركزية أحيانا بعيدا عن السوق لتعيد التوازن إلى الحياة الاقتصادية. ورغم ذلك يظل الناس باحثين عن الأفضل، مقدمين كل يوم حلولا أفضل.
الأمر نفسه جرى فى عالمنا العربى حتى بداية العصر الحديث. ومصر التى نعرفها أعظم نموذج. فمنذ زمان كان المصريون يقتلون ويصلبون على الخوازيق فوق المقطم بأمر الوالى العثمانى أو المملوكى لأى سبب، وأحيانا بلا سبب إلى العصر الحديث مع محمد على الذى أيضا لم يخل من ظلم، لكن العجلة دارت إلى دولة عصرية بالبعثات إلى أوروبا، وبالقادمين من أوروبا وبحرية العبادات التى جعلت اليهود يفرون من المذابح إلى مصر، والتى جعلت البهائيين يجدون فيها سكنا، ناهيك عن المسيحيين الأصلاء فى الوطن، والقادمين أيضا من أوروبا فى جنسيات عديدة. بهم ومعهم جميعا قامت نهضة مصر الحديثة. تطور الأمر إلى ما نعرفه فى عهد إسماعيل حتى ثورة يوليو 1952. كان هناك ظلم حقا من الإقطاع مثلا للفلاح، ومن الإنجليز للشعب، لكن لم يكن لأن الإقطاعى يمثل الدين، ولا لأن المندوب السامى يمثل الدين. كان ظلما وكانت عليه ثورات. ورغم أن الحكم الدينى شغل مصر منذ الفتح الإسلامى حتى محمد على. أى عشرة قرون، إلا أن إزالته لم تحتج إلى أكثر من خمسين سنة. إزالته بما تركه على الأرض من عادات وليس فى الحكم فقط.

عرفت مصر النهضة والحضارة العصرية حتى انفتح الباب مرة أخرى للدين، كأنه كان غائبا، مع الرئيس السادات. والمشكلة لم تكن ومازالت فى الحكم لكن فى العادات الجديدة التى دخلت مصر فى الملبس والمأكل والسلوك وتعرفونها، وهى حولكم وكلها باسم الدين. فتحت عبر الأربعين سنة الماضية عشرات القنوات تفتى فى كل شىء، كبير أو صغير. حتى بدا أنك لا يمكن أن تفعل شيئا إلا وتسأل فيه أولا رجل الدين! وستجد فيه من يقول لك أحاديث وأقوالا قديمة من كتب عفا عليها الزمن.

التفاصيل كثيرة ومربكة ومحزنة. كل شىء صار صعبا. كل شىء صار له مرجع دينى لا أعرف من أين يأتون به بكل هذه الجسارة. ولم يكن ذلك فى مصر فقط، بل حولنا فى العالم العربى كله. دول استطاعت إيقافه، لكنه لم يتوقف وعاد لينتقم. ودول تستطيع حتى الآن أن تتواءم معه. لم تعد لدينا مذاهب أربعة ولا خمسة، صار لدينا عشرات الأفكار تعتنقها جماعات كمذاهب. وكلها جماعات ذات صلة بالدول الطامعة فى الثروات العربية، مثل أمريكا وإسرائيل، وكلها جماعات تعمل بالمال. كان حكم الإخوان فى مصر بابا كادت تدخل منه هذه الجماعات بسلاحها، لكن الحمد لله قد قفل هذا الباب، وما يحدث الآن من إرهاب هو الأنفاس الأخيرة لهم. لكن لايزال الطريق طويلا لحياة مدنية حقيقية. فالعادات حولنا تحتاج إلى نهضة كبيرة فى التعليم وفى الاقتصاد والسياسة. وما تفعله وزارة الأوقاف أمر طيب بلا شك فى السيطرة على خطب المساجد، لكن هذه السيطرة يجب ألا تتوقف عند عدم الحديث فى السياسة، بل تمتد إلى عدم الحديث فيما لا يستحق الحديث فيه. أمور مثل عذاب القبر ومثل الثعبان الأقرع ويحزننى اهتمام الأزهر بها. نريد احتفاء بالمعاملات التى هى الدنيا لأن الجنة طريقها معروف، هو حسن الخلق والمعاملة وتعمير الأرض والنهوض بها.

لقد خلقنا الله لنعمرها لا لنتركها ونتعبد فقط. فالله فى غنى عن العبادة وفى غنى عن عبيده. كما أن الدنيا لم تبدأ مع الأديان، بل قبلها بآلاف السنين. ولم تكن السرقة مثلا قبل الأديان السماوية أمرا محبوبا، كذلك لم يكن القتل ولا الظلم ولا الخيانة. المرجعية الدينية لكل شىء تجعل الدين أساس الحياة، والحياة كانت قبله، وكانت هناك إمبراطوريات كبيرة وشعوب عظيمة. جاء الدين السماوى تأكيدا على الضمير وليس صناعة للضمير. أقف حائرا عندما يفسر الشيوخ والعلماء كل شىء بالرجوع إلى القرآن والحديث كأنما الدنيا ابتدأت بهما. لو نظرنا إلى الأحاديث الصحيحة نجدها قليلة، وكلها تأكيد لقيم كانت موجودة يوما ونسيت. حتى قصص القرآن الكريم عن الأنبياء باستثناء عيسى ومحمد عليهما السلام، كلها موجودة فى التوراة، وقصص التوراة كلها موجودة فى الحضارة البابلية والآشورية والمصرية القديمة. الدين يذكر الناس بالعمل الصالح الذى يعرفه الناس منذ آلاف السنين.

الصداقة والمحبة والإخلاص والأمانة وما تشاء من قيم جميلة عرفتها البشرية قبل الأديان.

نسيت فى فترات وتم الافتراء عليها وذكّرت الأديان والرسل الناس بها لكنها لم تبدأ بها.

طريقنا طويل خاصة أن ما يحدث حولنا فى العالم العربى مؤامرات قوية ترفع راية الدين. كل له راية. حتى المتطرفون يكفرون بعضهم. يالقماشة الدين! لكن يمكن جدا أن تكون مصر الهادية للبشر من جديد. أن تعلن للجميع أن أوروبا وأمريكا تخرج إلى الفضاء لتسيطر عليه لأنها من زمان انتهت إلى أن الدين يقين فردى، وليس عملا جماعيا. بينما نحن مشغولون بالخروج إلى الجنة التى لا يعلم أحد من سيدخلها إلا الله! ولابد أن ندخلها بالقوة وجماعة بينما يمكن جدا أن ندخلها ولا يدخلها من يجبروننا على ذلك.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 3

عدد الردود 0

بواسطة:

دكتور طارق

مقال رائع

عدد الردود 0

بواسطة:

د. احمد الباسوسي

نحو طرح ثقافي جديد

عدد الردود 0

بواسطة:

عبد الحميد حراز

الاْخ المحترم تعليق 4 مناقشة الحديث:

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة