
كان السبت 12 فبراير 2011 أسوأ الأيام فى حياة حسنى مبارك، فقد استيقظ مبكرًا، وبدأ يعانى من تأثيرات الأيام الأخيرة التى لم تتوقف فيها الضغوط.. كان آخر اتصال له مع نائبه عمر سليمان ظهر الجمعة، عندما اتصل به ليقرأ عليه بيانًا من 31 كلمة يعلن فيه تنحيه عن مهام منصبه، وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد.. تلا عمر سليمان عليه البيان تليفونيًا، فوافق عليه، وطلب تعديل «تنحيه» إلى «تخليه»، وبعد تعذر إرسال استديو للتسجيل طلب مبارك من سليمان أن يسجله بصوته، وأن يتم إرجاء إذاعته حتى وصول ولديه وزوجته إلى شرم الشيخ، وأبلغه بصعوبة الانتظار فى ظل وضع ملتهب، طلب فقط تأجيل الإذاعة حتى يستقل ولداه الطائرة المتجهة إلى شرم، ولم تكن هذه آخر الاتصالات بين عمر سليمان ومبارك، فقد استمرت الاتصالات فى الأيام التالية، وكان سليمان يحمل رسائل لمبارك، ويكرر عرضه له بأن يسافر خارج البلاد، كان سليمان وهو يوصله للطائرة قال له إن هناك عروضًا باستضافته وأسرته فى السعودية والإمارات، لكن مبارك قال: «أنا ماعملتش غلط، وهعيش هنا وأموت هنا»، وكان مبارك يظن أنه بتنحيه قدّم ماعليه، وأنه يستحق أن يعيش بهدوء فى شرم الشيخ، وكان الأطباء يتابعون حالة سوزان التى كانت تبدو أحيانًا حالتها أسوا من حالة مبارك.
.jpg)
قضى مبارك اليوم الأول بعد التنحى فى حالة مرضية متدهورة، ولازمه الطبيب، لكن حالة سوزان ثابت كانت أسوأ، لأنها عانت من انهيار فى أثناء مغادرة القصر، كما كانت آثار الصدمة ظاهره على جميع أفراد الأسرة. ولم يتابع مبارك أى نشرات أو أخبار، خاصة وقد ظهرت عليه أعراض المرض، ونصحه الأطباء بمتابعة المباريات أو غيرها بدلًا من الاستماع للأنباء السيئة.
أما جمال وعلاء مبارك فقد كانا يتابعان الأنباء والبرامج التى كانت بدأت تقدم موجات من الهجوم والانتقادات لمبارك وأسرته.. كان جمال يعلم أن حبيب العادلى منذ يوم 4 فبراير تحت التحفظ، ومعه أحمد عز، بينما باقى الوزراء مقبوض عليهم بتهم الفساد، وكان حسين سالم صديق الأسرة قد غادر البلاد إلى الإمارات ومنها إلى إسبانيا، واتصل بعلاء مبارك وطلب منه إقناع والده بالسفر للخارج وقبول العروض المقدمة، مؤكدًا استعداد السعودية لاستضافته، لكن علاء أخبره بأن حالة مبارك لا تسمح بمفاتحته فى الأمر.

وبعد أيام استقرت حالة مبارك، وبدأ يسأل عن الأخبار من جمال وعلاء، وخلال شهرى فبراير ومارس ظهر بعض المسؤولين فى نظام مبارك، ومنهم الدكتور فتحى سرور، رئيس مجلس الشعب، وزكريا عزمى. وقال سرور إنه حذر من أفعال أحمد عز، وتزوير الانتخابات، وإنه كان يدير المجلس ولا علاقة له بالقوانين. كما تحدث زكريا عزمى إلى إحدى القنوات، عن الثورة، فعلقت سوزان مبارك بالقول: «دول رجالتك؟»، وقال مبارك: «كل واحد بيسلك نفسه، ومافيش حد فيهم كان بيعترض، وكانوا مبسوطين من الانتخابات». كان رجال مبارك الأقوياء ينسحبون من المسؤولية، وكل منهم يقدم نفسه على أنه كان مجرد سكرتير للرئيس، وقد علق مبارك كثيرًا على ذلك بالقول: «كل واحد منهم ما كانش بينطق، ودلوقت يقول قلت له».
كان عمر سليمان على اتصال دائم بمبارك، وبعد أيام توجه إلى شرم الشيخ والتقى مبارك وجدد عرضه بالسفر، وقال إن السعودية عرضت استضافته، لكنه كرر رفضه، وجلس عمر سليمان مع علاء مبارك وكرر العرض، وطلب من علاء إقناع والده بالسفر.. كان عمر سليمان من واقع متابعته للأحداث يلاحظ ارتفاع مطالب المحاكمة، وكان يتصور أن سفر مبارك يمكن أن يكون حلًا يريح كل الأطراف، وقال إن هناك ضغوطًا على المشير والمجلس العسكرى لمحاكمة مبارك.. اقترح مبارك سفر ولديه علاء وجمال، غير أن زوجة علاء أصرت على البقاء فى مصر لتكون قريبة من ابنها محمد المدفون فيها، فانضم إليها زوجها علاء فى ذلك، وتبعه جمال برفض السفر حتى يبقى بجوار أبيه.
كان عمر سليمان قد تخلى عن منصب النائب فى اليوم التالى لتنحى مبارك، لكنه كان يذهب لمكتبه فى المخابرات، وقال لعادل حمودة: «كانت علاقتى بالمجلس العسكرى علاقة زمالة وأخوة.. وقدمت إليهم ما لدى من خبرة وإمكانيات فى الاتصالات الخاصة بمساعدة مصر للخروج من بعض الأزمات التى تعرضت لها.. فعلت ذلك تطوعًا، وليس تكليفًا.. لم يكلفنى المجلس العسكرى بأى مهمة على الإطلاق، لكن كل ما استطعت القيام به حدث تطوعًا».
.jpg)
وبالرغم من خروج عمر سليمان من السلطة فقد كان مستمراً فى تقديم المشورة كما قدم للمشير خلاصة نتائج حواراته مع القوى السياسية وهى حوارات لم تؤد إلى نتيجة.
كان مبارك يظن أنه بتنحيه فعل ما عليه، ولم يتوقع أن تتسع الدائرة وتطاله التحقيقات، وبدا مبارك مندهشًا من حجم الفرح برحيله عن الحكم، ومن اتهامات وشهادات بعض معاونيه السابقين، وأنه كلما سمع بدعاوى محاكمته يقول: «هما عاوزين إيه؟.. أنا سبت لهم كل حاجة.. أنا استلمتهم 43 مليون فى 1981 دلوقتى بقوا 90 مليون وكنت بلف وبجيب فلوس من كل حتة».

شعر بصدمة من فرحة المصريين لتنحيه، وكان يرى أن جماعة الإخوان كانت تستعد للقفز على السلطة فى البلد، وقال ذلك للرئيس الأمريكى أوباما، وحذره من أن البديل لنظامه هو حكم الجماعات المتطرفة التى لا يهمها الفوضى، وكان يتجاهل حجم الغضب الذى حدث طوال شهور، خاصة بعد الانتخابات، ولم ير أنه أخطأ، وكان يعتقد أن ما جرى كان مؤامرة أمريكية مع الإخوان، وقال: «من 2005 والأمريكان عاوزينى أمشى وقولتلهم أنا فى 2011 هسيب الحكم مش لابنى ولا حاجة زى ما بيقولوا توريث وبتاع.. أمريكا هيا اللى طلعت قصة جمال والتوريث وقلت لهم إحنا نظام جمهورى، والبلد عايزة حد من الجيش يبقى قوى وفى 2010 حسيت إنهم عايزين يمشونى بأى ثمن».
كان مبارك يصر على أن جمال لم يكن يريد السلطة، وتجاهل تفاصيل كثيرة كانت تؤكد أحقيته للسلطة فضلا عن الأيام الأخيرة التى تدخل فيها جمال وحبيب العادلى، وأوهماه بأن الأمور تحت السيطرة، لكنه بعد أن ترك السلطة تصور أنه فعل ما طلب منه، ويبدو أن حسنى مبارك تصور أن تنحيه سيكون كافيًا لامتصاص الغضب، لكن الشارع لم يهدأ، ونظم المتظاهرون مظاهرات يطالبون فيها بمحاكمته، وانتشرت فى الصحف والإعلام تقارير عن مصادر أجنبية ومحلية تعلن عن امتلاك مبارك ثروة تم تهريبها للخارج، ووضع بعضها فى بنوك سويسرا أو لندن، وكانت التقديرات بين 40 و70 مليار دولار، وهى أرقام نشرتها تقارير بصحف كبرى،
.jpg)
كانت أبرزها الجارديان البريطانية، مع تقارير وأخبار عن قصور فى لندن، وشرم الشيخ، وصفقات أبرمها علاء وجمال.. وعندما علم بأن هناك قرارًا من النائب العام عبدالمجيد محمود بالتحقيق معه فى قتل المتظاهرين، والفساد المالى، قال إن كل ما دفعته السعودية والإمارات تم وضعه فى البنك المركزى، وهذا بنك الحكومة، واستبق التحقيقات واتصل بمسؤولين سعوديين، وسجل بيانًا طلب إذاعته على قناة العربية، وأذيع البيان يوم 10 إبريل 2011، بعد 60 يومًا على التنحى، أعرب فيه عن تألمه هو وأسرته من حملات وصفها بالباطلة، ونفى أن تكون لديه أى حسابات خاصة خارج البلاد، وقال: «أؤكد عدم امتلاكى أنا وزوجتى وأبنائى علاء وجمال أى حسابات أو أرصدة أو عقارات خارج مصر، أو أى عقارات أو أى أصول عقارية»، نافيًا تورطه فى الفساد المالى أو استغلال النفوذ.

لكن ردود الأفعال على البيان جاءت غاضبة، باعتباره متهمًا يسمح له بالحديث للإعلام الخارجى، ليصدر قرار النائب العام بالتحقيق مع مبارك. ولم تفلح محاولات مبارك لتخطى التحقيقات، وكانت المملكة العربية السعودية عرضت 6 مليارات دولار لوقف محاكمة مبارك، لكن المشير طنطاوى أبلغهم بأن الأمر فى يد النيابة والقضاء.
.jpg)
كان مبارك يرفض الاعتراف بضياع الكثير من الفرص، وبأخطائه وعدم تفاعله مع أجراس التحذير خلال عشر سنوات، فقد كانت سلطته تتآكل مثل عصا سليمان، وربما كان فى يده أن يواجه مصيرًا آخر وقد حكم ثلاثين عامًا، وقبلها 6 سنوات نائبًا للرئيس السادات، وتجاوز فى حكمه مدد الرؤساء الثلاثة نجيب وعبدالناصر والسادات، وخلال حكمه ولدت أجيال، ورحلت أجيال، وتفككت أنظمة ودول، دون أن يرى دواعى لتغيير طريقته فى الحكم، ورفض الاستسلام للزمن، وتمسك بالاستمرار فى السلطة بالرغم من الوهن والمرض وقوانين البيولوجيا، بل أنه ترك باب التوريث مفتوحا أحيانًا، ومواربًا أحيانًا أخرى، وغامضًا طوال الوقت. وكانت الفرصة الأكبر لمبارك بعد انتخابه رئيسًا فى عام 2005، يومها كان مبارك فى السادسة والسبعين وأمامه 6 سنوات تصل به إلى الواحدة والثمانين، وكان الحديث عن التوريث بدأ وتصاعد بما يحيطه من غموض.

صباح الثلاثاء 12 إبريل 2011 كان محمد حسنى مبارك فى الثالثة والثمانين من عمره، ينتظر فى غرفته بشرم الشيخ، ويحاول إخفاء شعوره بالغضب والقلق، وتبادل أحاديث مختلفة مع ابنيه علاء وجمال وزوجته، منتظرا قدوم المحقق من النيابة العامة للتحقيق معه هو وولديه فى اتهامات بقتل المتظاهرين، واتهامات أخرى بالاعتداء على المال العام.. كانت سوزان ثابت تنظر لهم وتحاول أن تبدو متماسكة، بينما الشحوب لم يغادرها منذ الساعات الأولى لمغادرة القصر.
.jpg)
12 إبريل كان يومًا فارقًا فى حياة محمد حسنى مبارك، فهو اليوم الذى سعى لتحاشيه وتأجيله، لكنه وجد نفسه وجهًا لوجه مع المحقق المستشار مصطفى سليمان وفى مواجهة مع المستشار عبدالمجيد محمود النائب العام الذى أمر بالتحقيق فى البلاغ رقم 1 لسنة 2011، وأنه يواجه اتهامات بالقتل والفساد.. خضع مبارك لأول تحقيق بشأن اتهامه بقتل المتظاهرين والفساد المالى، وتأكد له أنه لم يعد الرئيس ولا صاحب القرار.. استسلم، وكيّف نفسه لأيام طويلة، بوصفه المتهم محمد حسنى السيد مبارك.. نفى اتهامات النيابة بإصدار أوامر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وارتكاب جرائم ضارة بالمال العام، وأصيب بأول أزمة قلبية، ليصدر قرار النائب العام عبدالمجيد محمود فى 13 إبريل بحبس حسنى مبارك وولديه علاء وجمال على ذمة التحقيق، وترحيل علاء وجمال إلى طرة، لتبدأ سلسلة أخرى من مصير مبارك بين المحاكمة والمستشفيات، ويستعيد شريط حياته من جديد ليظل مبارك ماضياً مستمراً.


"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 46.. حسنى مبارك بعيداً عن السلطة..رصد اتصالات بمبارك بعد التنحى.. والصدفة وحدها كشفت استمرار زكريا عزمى فى القصر الرئاسى

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 45.. مبارك يتراجع.. والمشير يتقدم..مبارك عرض على طنطاوى منصب النائب قبل عمر سليمان لكن المشير رفض فقال له: روح بيتك

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 44.. مبارك.. ونهاية دور عمر سليمان..جمال مبارك تدخل فى الخطاب الأخير لمبارك وحذف منه كل ما يتصل بالتنحى..مبارك رفض عرض عمر سليمان بالسفر للخارج

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 43..مبارك وحسين سالم.. لغز الألغاز..لغز المليارات التى هربها حسين سالم بعد ثورة يناير بطائرة خاصة من مطار شرم الشيخ

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 42..مناورات اللحظة الأخيرة بين مبارك وأوباما..مبارك التقى فرانك وايزنر وقال له إنه سيترشح ثم عاد وقال لن أترشح فأصيب أوباما بارتباك

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 41.. مبارك بعد فوات الأوان.. عمر سليمان رفع لمبارك تقريرا يوم 19 يناير يحذره من المظاهرات لكنه تجاهله وأحاله إلى رئيس الوزراء

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 40.. مبارك وتونس والإنذار الأخير..بعد هروب الرئيس التونسى قال مبارك لعمر سليمان: أنا مش جبان علشان أهرب زى زين العابدين بن على

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 39.. مبارك وعمر سليمان والمشير.. توازن الأمن..اللواء عمر سليمان الذى كان أقرب المقربين لمبارك لم يكن يحظى بثقة كاملة من الرئيس

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 38.. مبارك تحت حصار المرض وزكريا عزمى.. سوزان أجبرته على إلغاء قرار تعيين عمر سليمان نائباً مرتين.. مبارك خرج بعد انتشار شائعة موته يقول:«مش لاقى حد ينفع يترشح»

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 37.. مبارك والشاطر والإخوان.. من التحالف للصدام .. رسالة الجماعة لرئيس المخابرات: لا نسعى إلى الحكم وعلى استعداد تقديم ضمانات ..ورد مبارك: "اتركوهم يعملوا"

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 36 ..مبارك والعادلى.. الأمن والسياسة ..مبارك تردد فى تعيين العادلى بعد حادث الأقصر وفكر فى تعيين وزير من الجيش لولا تحذير زكريا عزمى

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 35 ..مبارك وتحالف جمال وزكريا عزمى وأحمد عز.. أحمد نظيف يقدم سجل إنجازاته فى خمس سنوات ويتحدث عن نسبة النمو ويتجاهل الفقراء.. زكريا عزمى يلعب دوراً مزدوجاً

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. الحلقة 34.. مبارك يترشح وجمال يحكم..ترشح مبارك وفاز لكن جمال هو الذى كسب المزيد من السلطة داخل الحزب والحكومة وسيطر على حكومة نظيف

"أحلام السلطة وكوابيس التنحى".. حلقة 33.. مبارك سافر لإجراء جراحة خطرة بألمانيا وقال: اعتبرونى إجازة ورفض تعيين نائب.. أعلن تعديل الدستور من مدرسة المساعى المشكورة وعاد للمنوفية بعد غياب نصف قرن

مبارك "أحلام السلطة وكوابيس التنحى" ..الحلقة 32.. مبارك وجورج بوش والفرص الضائعة..نجا مبارك من حرب الخليج الأولى والثانية وأصر على التلاعب بمطالب الأمريكان بين التغيير والهروب
للاطلاع على المزيد من حلقات مبارك "أحلام السلطة وكوابيس التنحى" أضغط هنا
