فلسطين تنزف.. وليلها طال.. وتعدّت ساعاته الساعات حتّى الأيام، وأمست سنوات طوالاً عددها أربعة وستّين. نعم.. أربعة وستّون عامًا لم يبزغ الفجر فيها على فلسطين ولم تشرق شمس الحقّ فى سمائها.. عاشت خلالها فى ظلامٍ دامسٍ، كُتِبَتْ حروفه بأقلامٍ سوداء منها غربى الصُنع ومنها المحلّي. بِيعتْ أراضيها، هُدِّمَتْ بيوتها، ارتكِبَتْ المجازر بحقِّ أبنائها، وشُرِّد أهاليها.. تشتَّتوا فى بقاع الأرض المختلفة، حام لين أوجاعهم معهم، حاملين جروحاتهم وحاملين ذكرياتهم. تعلَّقوا بمفاتيح منازلهم حتى أصبحت أيقوناتٍ مقدّسة بالنسبة إليهم علَّقوها على صدورهم نياشين وعلى الجدران أوسمةً أينما ذهبوا.
وأصبحت فلسطين قضيّة حملوها كيفما تنقَّلوا... وبات الصراع من أجلها من الخارج وليس فقط من الداخل. أسلحتهم لطالما كانت متعدّدة، فكان منها الكفاح العسكرى بكل أنواعه ومن أماكن مختلفة، وكان منها الكفاح بالكلمة، عبر بيانٍ أو خطاب، ومقالٍ أو قصيدة، وقد رافق الكفاحين أغانى ثورية وأناشيد وطنية وأفلام وثائقية تحكى كلّها قصّة وطن نَهَشَت بجسده وللعار عميقًا أظفار عربانٍ مع بنى صهيون، فنزف دماً ثقيلاً روى الأرض بغزارة فأنبتت شعبًا مقاومًا وثوريًا، مناضلاً وصامدًا حتى اللحظة هذه.. لحظة العدوان الصهيونى القاهر والمتكرّر على قطاع غزّة برًا وبحرًا وجوًا حتى تجاوز عدد الشهداء الـ1380 والجرحى الـ8000، وكلاهما فى تصاعدٍ مستمر، وقد حلّ الدّمار أينما كان. فالقصف العنيف والضربات المكثّفة على غزة المحاصرة طالت المبانى والمنازل والمخيّمات والمدارس والعيادات وسيارات الإسعاف ومكاتب صحفية ومصارف ومحطة كهرباء غزة وغيرها العديد من المواقع المدنية، فيتَّمت الأطفال، وحوّلت الأمهات إلى ثكالى مفجوعات، والنساء إلى أرامل، وعصرت قلوب الرجال ألماً وأنيناً على فقدان أولادهم وأمهاتهم وآبائهم ونسائهم فى أيام صيام وعيدٍ فقد كلَّ رموز العيد.. حيث لا عِيدْ دون أطفال... فبأيّةِ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ والأطفال باتوا هم الأضاحى والخرفان؟!
يا لجبروتكم يا بنى صهيون..يا لشرّكّم الظاهر والمدفون... يا لكيدكم... لحقدكم... لشيطانكم الملعون... لكنَّ المقاومين الشرفاء والمناضلين الثوار الأحرار عليكم كل يومٍ بالحقّ ينتصرون. فالمقاتلون ورغم إمكانياتهم العسكرية المحدودة من حيث العتاد بالمقارنة مع عتاد العدو إلاّ أن التكتيك العسكرى المعتمد اليوم من قبل فصائل المقاومة يُربِكْ العدو كثيراً ويفاجئه بقوّة. كما أنّه من الواضح أن المقاومة تتمتَّع بروحٍ عالية جدًا وما تُخفيه من قدرات هو أكثر بكثير ممّا أظهرته حتى الساعة، فالمقاتلون قد دخلوا المعركة باستعداد عسكرى وجاهزية كاملة بدأت بروح الصمود التى لديهم مع إصرارهم حتى الآن على عدم إيقاف المعركة قبل فكّ الحصار عن غزة وعودة شبه الحرية إلى أهاليها.
وكى لا تذهب هذه المعركة سدى كسابقاتها، وكى لا يُهدر بعد اليوم دم الشهداء مجاناً، فمن الضرورى أن تقوم اليوم الانتفاضة على كامل الأراضى الفلسطينية فى الوقت ذاته بموازاة مسيرات ومظاهرات الرأى العام العالمى المؤيدة لفلسطين ولحقوق الفلسطينيين، والمندِّدة بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية المرتكبة من قبل المحتلّ، بينما المواقف الرسمية للحكومات العربية تقتصر فقط على الإدانة والإستنكار!. وأين قطر التى تقلّب شعوبًا عربية على مؤسّسات دولهم، وتنشر الفوضى والفساد تحت نفس الشعارات المزيّفة لمن تسير فى قافلتهم، بينما هى أصبحت ولاّدة لكلّ أنواع التخلّف الإنسانى من جهلٍ وتطرّف وهمجيّة وإجرام... يا للعار يا قطر... يا للعار... كم هو معيبٌ ومُخزى ما فعلتيه بأشقّائك من الدول هنا وهناك... أليس من المشرِّف لكِ بعد أن انعدمَ الشرف لديكِ، بأن تزوّدى الإخوة الفلسطينيين اليوم فى الداخل شعباً ومقاومةً بالتمويل من أجل التسلّح وأن تقوِّى ظهورهم فى الإنتفاضة فى وجه العدو الصهيونى كى يصبحوا قادرين على انتزاع حقوقهم منه وتحقيق النصر عليه بدلاً من أن تزوّدى المواطن العربى بالسلاح كى يوجّهه هو والسيف لقطع رأس أخيه؟!!
وألا تخجل بعض الحكومات العربية من مواقف دول أمريكا اللاتينية المشرِّفة التى اعتبر بعضُها الكيان الصهيونى كيانًا إرهابيًا وأن ما يفعله هو جرائم ضد الإنسانية؟ ومن آخرين اشترطوا على مواطنيهم اليهود المزدوجى الجنسية التخلّى عن الجنسية الإسرائيلية حال أرادوا الاحتفاظ بالجنسية الأخرى؟!
فى الختام، أقولُ يا لخيبة الأمل.. ويا لجرح الفؤاد على شعبٍ يعانى قسوة العدو وظُلم ذوى القربى.. لقد طالت سنوات الانتظار وأعوام الرجاء باستعادة الأرض وعودة أهلُها إليها والتمتّع بكل حقوقهم، ولم يبقَ هناك سوى خيار واحد لا غير ألا وهو الإستمرار بالمقاومة والكفاح المسلّح من أجل استرداد كل الحقوق بعد أن استُهْلِكَتْ كلُّ وسائل العدو من تسويف وخداع ومماطلة على مرّ العقود. فتاريخ العدو أسود أسود.. وتاريخ القضية الفلسطينية هو معاناة شعب طالَ انتظاره ونفد صبره!
ناتاشا لطفى سعد تكتب من لبنان: معاناة شعب طالَ انتظاره
الثلاثاء، 05 أغسطس 2014 12:02 ص