لم يكن يدرى ما سر تلك الرغبة التى استبدت به مؤخرا، لم يعترف يوما قط أنه نسيها, فأى تجربة حب حقيقى تنتهى بغيرِ النهاية السعيدة, تترك فى النفس بقايا جروحٍ لا تندملْ, وبقايا جذورٍ لا تُقتلعْ, مهما طال الوقت. أن تظل قابعةً فى عمق ما من وجدانه, تقفز ذكراها إلى خياله بين حين وآخر كان أمراً طبيعيا على نحوٍ ما. لكن الغريب حقاً هو تلك الرغبة التى استبدت به مؤخرا فى أن يتواصل معها بشكلٍ ما, يلقاها أو يتحدث إليها هاتفيا, بعد مرور كل تلك السنوات التى مرت على آخر لقاء, فقَدَ خلالها كل وسيلة اتصال ممكنةٍ بها. والأغرب أنه لم يكن يدرك بشكلٍ واضح ما الهدف من التحدث إليها أو لقائها. هو الآن رجل متزوج فى الثالثة والثلاثين من عمره, لديه طفل, وزواجه وإن لم يحقق له السعادة التى كان يأملها إلا أنه ليس زواجا تعيسا. هى الأخرى, هكذا هو نفسه كان يعتقد بشكلٍ أشبه باليقين, غالبا قد تزوجت وأنجبت, وكان من غير المتوقع أن تصل فتاة مثلها إلى سن الثالثة والثلاثين دونما زواج, وهى شديدة الجمال, رفيعة الحسب والنسب, وانتماؤها إلى إحدى العائلات الريفية بإحدى قرى محافظة المنصورة لا يمسح لها, وفق التقاليد والأعراف الريفية, بأن تنتظر طويلا دون زواج طالما قد توفر الزوج المناسب, حتى وإن كان هذا المناسب ليس هو فارس الأحلام.
أحبها بشدة منذ أن رآها فى أوائل أيام السنة الأولى للدراسة الجامعية، اقترب منها كصديق وزميل فى البداية لكى يصارحها بحبه فيما بعد. لم تكن فتاةً لعوبا, ولذلك فلربما اعتبرت هذا الحب من جانبه لعباً أو جنونا من طالبٍ بالسنة الدراسية الأولى لم يكن يملك من أمر نفسه شيئاً حتى يملك توفير بيتٍ لزواجٍ وأسرة. أو ربما أن حداثة عهدها بالعالم المفتوح نسبيا فى الجامعة بالقياس إلى خلفيتها الريفية, مع احتمال أن فتاةً فى السابعة عشر مثلها قد لا تكون تعرضت من قبل لتلك المكاشفة الصريحة بالحب, هو ما أدى إلى رد فعلها الحاد تجاهه, بعيدا عن أى شىءٍ آخر. وأياً ما كان الأمر, فقد صدته ووبخته بكثيرٍ من الحدة والعنف, فتراجع هو منسحباً منكسرا, وظلت العلاقة بينهما طوال الفترة التالية من الدراسة الجامعية لا تعدو أن تكون سلاما فاترا لا يصحبه حتى شبح ابتسامة, وتكاد لا تلتقى أعينهما إلا لتتحول سريعا فى اتجاهٍ آخر تخشى المواجهة. غير أن آخر لقاء له بها كان دراميا بكل معنى الكلمة، ففى العام الدراسى الأخير اجتازت هى امتحانات آخر العام ونجحت فى الدور الأول, بينما رسب هو فى إحدى المواد واضطر إلى آداء امتحانها مرة أخرى فى الدور الثانى. فأى سببٍ قد يكون لتواجدها بالكلية فى يوم آدائه امتحان تلك المادة تحديدا, وهى قد اجتازت امتحاناتها بنجاح فى الدور الأول, سوى أنها كانت تتيح فرصة تبدو أخيرة لنظرةٍ, فحديثٍ, فلقاءٍ يتصل فيه ما انقطع خلال عهد الجفاء الطويل السابق. و رغم أنه استنتج ذلك بالفعل حين رآها لدى خروجه من اللجنة بعد أن أدى الامتحان, واقفةً ترنو إليه بنظرةٍ لا يخطئها قلب المحب, إلا أن ما فعله هو أنه نظر فى عينيها نظرة طويلةً بعض الشىء, لم يكن هو نفسه يعلم معناها على وجه الدقة: أهو شعور بالانتصار بعد الانكسار, أم بالحزن, أم بالغضب, أم بالعتاب, أم بالاقتناع بمنطقية أسباب ابتعادها عنه سابقا وتسليم بأن هذه الأسباب لم تتغير حتى بعد مرور كل تلك الفترة, أم هو مزيج من كل هذا؟.
طالت نظرته العميقة إلى عينيها بعض الشىء ثم أشاح بوجهه ومضى فى طريقه مغادرا يمتزج فى قلبه شعور الألم بشعور الغضب.
الآن.. وبعد مرور كل تلك السنوات, لم يكن يشغل نفسه أى وضعية هى عليها: غير متزوجة, متزوجة, مطلقة, أرملة. لم يكن يبالى سوى بتلك الرغبة الجارفة التى اجتاحته كى يتواصل معها على نحوٍ ما. هو حتى لم يسأل نفسه ما الهدف من التواصل معها, أو ربما هو لم يكن يرغب فى أن يسأل نفسه هذا السؤال, لأنه كان يخشى مواجهة الإجابة الأرجح والتى تعنى أن احتمال أن تجمعهما الحياة كشريكين, قد بات من أبعد المُمكِنات.
بدأ ينقّبُ فى كل ثنايا ذاكرته بحثا عن خيطٍ يصله بها مهما كان رفيعا، سأل أصدقاء قاهريين ممن له علاقة بهم فى الوقت الحاضر وكانوا يوما زملاء دراسة فى جامعة المنصورة حيث كان يدرس, مدعيا أن ابنة أخته سوف تذهب للدراسة فى جامعة المنصورة وتحتاج إلى من يساعدها فى ترتيب أمورها هناك. لم تفلح الخطة، لم يكن أىٌ منهم يعرف عنها شيئا، كرّس ذهنه للأمر عدة أيام يفكر فيما يمكن أن يكون ومضةَ أملٍ تشيرُ إلى طريقها. جرب طريقة أخرى... اتصل بدليل التليفون واستفسر عن رقم هاتفٍ باسم والدٍ أو أخٍ أو أختٍ أو عمٍ لها, لكنه لم يصل أيضاً إلى شىء. لم ييأس... الرغبة فى الوصول إليها كانت طوفانا يجتاحه ويقذفه فى اتجاهها إلى أبعدِ حد. على مدار شهرٍ بالكامل, ومن تنقيب فى الذاكرة بحثا عن أسماء لزملاء قدامى, إلى اتصالِ بزملاء وأصدقاء فى القاهرة, إلى اتصال بآخرين فى المنصورة.
وصل أخيرا إلى رقم هاتفها المحمول، أمسك بهاتفه المحمول يستعد للاتصال بها وأنفاسه تتلاحق وكأنه على وشك تفجير قنبلة، رن الهاتف، طال الرن، كاد يُنهى عملية الاتصال قبل أن يرد الطرف الآخر, إلا أن إصبعه تجمدت عن ذلك، انفتحَ خط الاتصال وكانت مفاجأة.. صوتُ رجل يرد "ألووو"، ارتبك وتحيرّ ولم يدرِ ماذا يقول.
لقد حصل على الرقم بعد جهدٍ بالغ على أنه رقمها, فإذا برجلٍ هو الذى يرد على الهاتف. وجد نفسه يسأل مرتبكا متلعثما: "أليس هذا هاتف سلمى؟". صمت الرجل للحظات وقد استلفت انتباهه نطق المتصل لاسم سلمى مجردا من اسم الأب أو لقبى "أستاذة أو مدام" أو ما شابه من الألقاب التى توحى بقدرٍ من الرسمية المفترضة فى حديثِ رجلٍ إلى سيدة, واستلفت انتباهه أكثر تلعثم المتصل وارتباكه, وقال: "سلمى ؟.. أنت تعنى أم أيمن، عذرا, أم أيمن خارج المنزل وقد تركت هاتفها المحمول على الشاحن، أنا أبو أيمن هل من خدمةٍ أقدمها لك؟". صمت مرتبكاً للحظات قبل أن يتمالك نفسه ويقول "لا, شكرا. آسف يا أبا أيمن. آسف جدا لإزعاجك. لكن اسم ابن أختى سلمى هو أحمد وليس أيمن. يبدو أن والدتى أعطتنى رقم سلمى الجديد بشكل خاطىء. أشكرك. مع السلامة".
أغلق الهاتف وأطرقَ صامتا لبعض الوقت وهو يفكر فى تلك المكالمة, وظلَ ذهنه يجول بين أسماء ثلاثة: سلمى, أبو أيمن, أيمن. ثم رفع رأسه وهو ما زال يفكر, لكن تفكيره فى تلك اللحظة التى رفع فيها رأسه لم يكن سوى أن ظل يردد فى ذهنه ثلاثة أسماء بالتتابع لمراتٍ عديدة.. أيمن.. أم أيمن.. أبو أيمن, ولم يكن اسم "سلمى" من بين الأسماء التى رددها فى أىٍ من هذه المرات.
