كان المؤرخ اليونانى القديم "هيرودت" موفقاً إلى حدٍ بعيدٍ فى مقولته الخالدة بأن "مصر هبة النيل"، فالنيل هو سر الخلود وإكسير الحياة، فقد وهب الحياة لمصر منذ أقدم العصور، فقامت على ضفافه أروع حضارة عرفها التاريخ، فما زال العلم الحديث عاجزا أن يفك كل طلاسم شفرتها العلمية العبقرية، وما تزال منجزاتها الطبية والهندسية تشعر جميع الحضارات الراهنة بأنهم ما زالوا أطفالا أمام نضجها وتقدمها.
فعلى ضفاف النهر الخالد قامت الحضارة المصرية القديمة، وأصبحت مصر هى قبلة العالم أجمع، فصارت الحصن والملاذ لكل خائف وجائع ومحتاج ولكل طالب علم أو عمل أو دنيا أو دين، فعرف أهلها التوحيد والبعث والحساب منذ فجر التاريخ.
فكان ارتباط أبناء مصر بأمهم ارتباطاً خالصاً، فلم تشوبه أبدا شوائب اختلاف الدين أو العقيدة أو النعرات القبلية أو الطائفية، ويكفى أن أذكر هنا المصرى اليهودى كوهين( المتبرع بقصره الكائن بالزمالك للسفارة الجزائرية) الذى أخبر وزير الثقافة المصرى ثروت عكاشة بمجىء العدوان الثلاثى على مصر قبل موعده بفترة كافية للاستعداد. وبالقس المسيحى المصرى - من قبله – الذى صرخ فى وجه الاحتلال الإنجليزى، قائلاً: "إذا كان الاستعمار الإنجليزى قد جاء – كما يدعى - لحماية الأقباط فى مصر فليمت القبط وليعش المصريون أحراراً".
فثقافة النهر هى ثقافة الحب والسكن، فمن يعيش مرتبطا بالنهر لا يستطيع أن يهجره ويرحل، فهو يحرث الأرض ويبذر البذور ثم ينتظر الفيضان الذى يغمر الأرض فينبت النبات الذى يتعهده بالرعاية والاهتمام حتى يهيج فيراه مصفراً فى موسم الحصاد فيجنى ما زرع من خضار وفاكهة وما سمن من طير وحيوان، فيرتبط بالمكان ويهيم عشقاً به بل ويتغنى به وبأمجاده.
هذا على عكس الثقافة الصحراوية التى لا تعرف الارتباط بالأرض ولا بالمكان، فهم – فى الغالب – بدو رُحَّل أو أشباه رُحَّل ينتقلون من مكان إلى مكان حسب وجود الكلأ والماء، فلا وجود لديهم لفكرة الوطن إلا ما وجد فيه العشب والماء فإذا نضب لم يعد وطنا؛ بل أنهم لا يتورعوا فى تركه خرابا بعد أن تسلموه عماراً.
والثقافة النهرية تجد دائما أهلها مسالمين متعاونين على أعمال الخير، فأعمال الزراعة تتطلب تضافر الجهود لتحصيل الأرزاق. أما أصحاب الثقافة الصحراوية فقد اعتمدوا فى تحصيل أرازقهم على الإغارة والغزو والسلب والنهب للقبائل المجاورة، وقطع طرق القوافل التجارية وغيرها فكان تعاونهم الوحيد على الإثم والعدوان. ولذلك كله فلا معنى عندهم لكلمة الوطن ولا قدسية لوحدته وترابطه. فلا ضير أن يتمزق ويتفتت ويصير دويلات متناحرة تقتتل باستمرار من أجل ما تجود به الطبيعة من خيرات عليهم، لا من أجل ما زرعت أيديهم أو صنعت!
وعلى يد الثقافة النهرية تُفضح المؤامرات وتنحسر؛ فتفضح مصر غدر المتآمرين على تقسيمها إلى دويلات على أسس دينية وطائفية، ويتصدى شعبها صاحب الثقافة النهرية المتشبع بحب الوطن للمؤامرة وينجح فى التصدى لها.
د. غيضان السيد على يكتب : الثقافة النهرية وحب الوطن
الأحد، 24 أغسطس 2014 09:22 م
فلاح مصرى يزرع أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة