أنا لست مؤرخا أو أكاديميا هكذا استهل سميح القاسم مقدمة سيرته الذاتية "أنها مجرد منفضة" التى صدرت قبل ثلاثة أعوام وتحديدا فى نوفمبر 2011 عن دار دار النشر "راية"، حيفا فى 450 صفحة.
فلم يكتب سميح القاسم سيرته مرةً واحدةً، فى فترة واحدة، ففى ص 170 إشارة إلى أن ما سبق من صفحات أنجز فى 23/10/2004، وفى ص 286 تاريخ آخر هو 2/10/2005، وفى ص 288 إلى ص 299 نصّ كان سميح كتبه فى 30/12/1966، أما فى ص 324 فهناك تاريخ آخر هو 23/10/2005، وفى ص 358 - آخر صفحة فى السيرة، قبل صفحات الصور، إشارة إلى تاريخ 22/5/2006.
سميح القاسم يرى فى نفسه شاعرا عربيا أمميا يكتب سيرته على غرار قصائده بلغة السهل الممتنع، يعتمد فيها تارة التصريح وتارة أخرى يكتفى بالتلميح، وفيها يخاطب أناه ويحدثها عما حصل بسرد روائى يزينه بكثير من النوادر و"النهفات".
رغم المرارة والأسى الملازمة لكثير من فصول السيرة يحافظ الكاتب على روح المرح والنكتة وإن كانت أحيانا سوداء، حيث يجرى فى مقدمة سيرته حوارا مع ذاته حول نفسه وعن حقيقة جدوى السيرة الذاتية ومدى دقتها وموضوعيتها وحول أفضل الطرق للبدء فيها ويبرر عدم اعتماده السرد الكرونولوجى الممل والملتزم بالتسلسل الزمنى بقوله إنه ليس مؤرخا ولا أكاديميا، مؤثرا الاسترسال العفوى: "... أنتَ لا تُدوِّن تاريخًا ولا تلتزم التدرّج الزمنيّ. هى أخبار سمعتَها وقصاصات قرأتَها وذكريات تتدافع. ولأنَّكَ لا تكتُب وعيناكَ على الرزنامة فخيرٌ لك أن تُسجّل ما يحضرك، لأنّ النسيان لكَ بمرصاد..".
طفولته البائسة المصعوقة بالنكبة لا تعنى بالضرورة طفولة الحرمان من الثياب والأحذية الجديدة والطعام والحلوى والسرير المريح واللعبة الجميلة والبيئة المحبّة المتعاطفة المتجانسة فهو يتحدث عن حرمانه وجيله من الروح لا المادة، من هيمنة ثقافة المحتلين الذين استماتوا فى طمس الهوية الوطنية لشعبه.
ويستعرض الشاعر الذى وضع أول قصيدة وهو فى الرابعة عشرة كيف سقطت بلدته، الرامة المسكونة بعدة طوائف، فى الجليل بعدما داهَمَها اليهود، جمعوا رجالها فى ساحتها وهم يطلقون النار فى الهواء ويشير إلى رفض سكانها الدروز إبقاءهم وطرد إخوانهم المسيحيين ليفشلوا لاحقا فى ممارسات "فرق تسد" الإسرائيلية.
وضمن مسلسل ملاحقته يكشف القاسم عن محاولة أفشلها أقاربه فى آخر لحظة لمغادرة البلاد بحثا عن أفق جديد فى لحظة ضجر وغضب عام 1958 عقب تضييق الخناق عليه عقب تراكم تهديده وعائلته ومنعه من المشاركة فى مهرجان شعرى وهى لحظة كادت تفضى به إلى طريق سلكها زميله لاحقا محمود درويش.
ويسرد القاسم ملاحقة السلطات الإسرائيلية له ولرفاقه الشعراء والكتاب فى سنوات الستين والسبعين من القرن الماضى باعتقاله عدة مرات وإبعاده عن سلك التدريس وإبعاده عن قريته.
ويتوقف مطولا عند مدينته المدللة، حيفا، التى انتقل إليها شابا فى مقتبل العمر وتعرف فيها على الشاعر الراحل محمود درويش وغيره وهناك التحق بالحزب الشيوعى وعمل فى وسائل إعلامه بعدما اكتوى بنار البطالة.
فى تلك الفترة واجه سميح القاسم ومحمود درويش ورفاقهما الكثير من الحرمان والضيق بعكس ما جاء فى المسلسل الدرامى "فى حضرة الغياب".
يروى سميح بعض ذكريات أيامه المشتركة مع الراحل محمود درويش فى حيفا يوم جمعتهما زمالة القصيدة والعمل فى صحف الحزب الشيوعى ويشير إلى شظف حياتهما وإلى "أيام الحاجة" بكثير من الحسرة والدعابة ولا سيما أنهما راحا فى شبابهما يوظفان قدرتهما على نحت الشعر من أجل "ابتزاز" ما يسد رمقهما وإسكات عصافير بطنيهما.
ذاتَ يوم شكوتَ لمحمود جيوبك الخاوية، فبادلك الشكوى بأختها. وسخر منكما زميلكما على عاشور: نحنُ بجوار سوق الخضار. عبّئا صحّارةً من البلاستيك أو صندوقًا خشبيًّا بمختارات من شعركما الحديث وانزلا إلى السوق فقد تبيعان شيئًا يوفّر لكما ثمن وجبة الغداء!
لم ترقكما الفكرة. واقترح عليك محمود أن تستدين من محمد خاص.
وَقفتَ بين يدى محمد منشدًا:
يا محمّد
يا أميرًا. يا ابن مَن كانت وتبقى
أبَدَ الدّهرِ أَميره
أعطنا خمسينَ ليره!
نظر إليكما محمد شزرًا وتمتم:
أنا فقير مثلكما فانصرفا عنّي!
لم تيأس. وهتفت:
يا محمَّد
يا فقيرًا وابن مَن كانت وتبقى
أبَدَ الدّهرِ فقيره
أعطنا.. عشرين ليره!
لقد خَفَّضتَ المبلغ من خمسين ليرة إلى عشرين ليرة. غير أنّ هذا "التنازل" لم يهزّ مشاعر محمد خاص الذى صرخ فيكما:
- أُغربا عن وجهى!
وعُدتَ إلى مواجهته، باحثًا عن "استعطاف" جديد، لكنّه استبقَ كلامك قائلاً:
- معى عشر ليرات. خذاها. وأمرى لله!
وحين استفسرتماه عن سرّ تحوّله هذا المفاجئ فقد قالَ بيأس:
- بعدَ قافية أمير وأميرة، فقير وفقيرة، جاءَ دور الحقير والحقيرة.. فقرّرتُ النجاة بجلدى وبجلد أمي.. خذا الليرات العشر وأجرى على الله!
وانعكست ذكريات العوز والفقر المرّة بقصيدته "خِطاب مِن سوق البطالة" واشتهرَت لاحقًا باسم "سأُقاوِم". وكانت أيضا قصيدة يقول فيها:
حَمَلتُ الجوعَ زُوَّاده
وَرُحْتُ مُبكِّرًا للشُغلِ كالعاده
فلَم أعْثُر على عملي
وَلا وَردى وَلا خُبزى ولا أَمَلي
أَنا جُنديُّكِ المجهولُ يا أسوار طرواده!
وفى الفصل الخاص بعلاقاته مع محمود درويش التى شهدت انعطافات مختلفة يروى قصة الرسائل المتبادلة، بدأت الرسائل بين القاسم ودرويش لعبةً بين صديقين، لكنّ الإقبال الواسع لدى القرّاء على مُتابعة هذه الرسائل، جعلها ظاهرة "أدبية" استثنائية آنذاك"
القاسم الذى كان يفاخر ببقائه فى الوطن ويأخذ على محمود درويش هجرته له يوضح أنهما لم يبحثا عن فكرة تجديد أدب الرسائل.. وكل ما فى الأمر هو أنّ الضرورة دفعتهما إلى هذا الشكل من أشكال التواصل نتيجة البعد والفراق عقب رحيل محمود من البلاد عام 1971.
ويضيف" فى واقع الأمر فقد بدأ الأمر لعبةً بين صديقين، لكنّ الإقبال الواسع لدى القرّاء على مُتابعة هذه الرسائل، جعلها ظاهرة "أدبية" استثنائية آنذاك".
وتتضمن السيرة الذاتية قصة فرض الخدمة العسكرية القسرية عليه وعلى الكثير من الشباب العرب الدروز من قبل الجيش الإسرائيلى بدءا من 1956 تزامنا مع العدوان الثلاثى على مصر ضمن مؤامرة التفرقة الطائفية التى انتهجتها إسرائيل.
وهى قصة سبق أن نشرت فى الصحف ويستعرض فصول معاناته وملاحقته وسجنه بسببها مرات عديدة.
ولاحقا أتيح له مزاولة تعليم الجنود غير العرب وسرعان ما اتهم بدسّ السّم فى الدسم والتحريض على الدولة وعلى الجيش حتى عبر دروس قواعد اللغة العربية.
وبعدَ اعتقاله مجددا داخل زنزانة أجبره الجيش على اجتياز دورة فى التمريض وعاقبه بإرساله للعمل فى غرفة الموتى فى مستشفى "رمبام" فى حيفا.
كما يشير إلى تمكنه عام 1958، مع صدور مجموعته الشعرية الأولى "مواكب الشمس"، مِن تأسيس منظمة الشبان الدروز الأحرار، شبه السريّة.. التى استمدَّت اسمَها مِن وَهج "الضباط الأحرار" فى مصر، والتألُّق القومى الناصرى آنذاك.
ويوثق القاسم مشاعر صدمته لسماعه أنباء النكسة وهو داخل السجن وعلى أثرها استجاب لعرض بعض رفاقه بالانضمام رسميا للحزب الشيوعي.
وبعد العمل فى "الغد" و"الاتحاد" تفرّغ لرئاسة تحرير مجلّة "الجديد"، التى أصبحت بجهودٍ مُشتركة مع صليبا خميس وتوفيق زياد ومحمود درويش وآخرين، المحور الأساسى والمركزى للحركة الثقافية العربية التقدّمية لدى فلسطينيى الداخل المحاصرين طيلة "عقود باهظة".
فى عام 1968، شارك القاسم ومحمود درويش فى مهرجان الشباب العالمى فى صوفيا وهناك أيضا شعرا بالحرج لمشاركتهما ضمن الحزب الشيوعى الإسرائيلى رغم طابعه العربى ويكشف أنه ذهب برفقة محمود درويش والمحامى محمد ميعارى لمقابلة "سرية" مع الشاعر العراقى الجواهرى ظلَّت آثارُها فى نفسه إلى اليوم وتحوّلت فيما بعد إلى صداقة "جميلة نبيلة".
"لم تدم عضوية سميح القاسم فى الحزب الشيوعى نتيجة خلافات فى الرأى وجراء اتهامات متراكمة له بالتزام مواقف قومية متشددة إضافة لمُعالجته التحوّلات الخطيرة فى الاتحاد السوفياتى "
ولم تدم عضوية سميح القاسم فى الحزب الشيوعى نتيجة خلافات فى الرأى وجراء اتهامات متراكمة له بالتزام مواقف قومية متشددة إضافة لمُعالجته التحوّلات الخطيرة فى الاتحاد السوفياتى وسائر الأقطار الاشتراكية نهاية الثمانينيات، التى جوبِهتَ بالرَّفض والمعارضة القاطعة.
وقدَّم القاسم استقالته غاضبًا وآسفًا، وجاءَ الرَّد السريع بإنهاء عمله فى مجلّة "الجديد" رغم الاتّفاق القديم بأنّ عمله فى صحافة الحزب ليسَ مشروطًا بعضويّته فعاد لمواجهة البطالة مجددا.
فى المقابل يوضح أنه رغم اختلافه مع أفراد من قيادة الحزب الشيوعى رفض جميع الإغراءات لتحويله عدوًّا له وينبه إلى أنه لا يغفل دوره بوصفه أول إطار سياسى بعد النكبة يرفع شعار حق تقرير المصير للشعب العربى الفلسطيني.. وحمى اللغةَ العربية والرّوح العربية مِن دعاوى مَسح الذاكرة وإلغاء الهوية وطَمس الوجود القومى والوطنى والإنساني.
ومع ذلك يستثنى القاسم فى مذكراته بعض المواجهات الساخنة بينه وبين بعض قادة الحزب الشيوعى أمثال الراحل إميل حبيبى بعدما جمعتهما خصومة كبيرة. لكنه يشهد على نفسه ويقسم بالله وبكلّ ما هو عزيزٌ عليه على أنه ليس بغاضب أو بحاقد على أحد، وربما أنه عاتب فقط على من أساؤوا له.
وضمن مخاطبته العذال والشانئين الذين يدأبون على النبش فى سيرته بحثا عما يدينه يتساءل بعد إشارة ثقافية تاريخية لافتة: هبونى خالد بن الوليد، فهل تُحاسبون الرجل على أمور تدّعون أنّها حدثت له فى جاهلية العرب؟
وبالنسبة لسميح القاسم فالسفر ليس تواصلا ومتعة بل تجربة مفيدة فهو يقول جازما إنّ الأماكن الصغيرة تشكّل عقولاً صغيرة، و"هذا نفسه ما أقنعك بأنّ السفر ضرورى ليس لمشاهدة الأمكنة والمجتمعات فحسب، بل للتفاهم معها".
ويسرد القاسم لقاءاته بزعماء ومثقفين عرب وأجانب خلال سفره المكثف فى العالم الذى يشهد بأنه من أجمل هواياته ومن ضمن هؤلاء الزعيم الجزائرى أحمد بن بلا وعشرات المثقفين والساسة العرب والأجانب.
ويعرج القاسم على علاقاته الخاصة بالراحل ياسر عرفات الذى حثّه على زيارة القاهرة وعدم الاهتمام بـ"حواديت التطبيع" لكونه مندوبًا عن شعبه ووطن وأمّته وقضيّته.
ويتشابه القاسم مع الراحل إدوار سعيد (خارج المكان) فى سرد ذكرياته بالتفصيل الشفاف الدقيق وبعدم التردد فى الكشف أحيانا عن قضايا شخصية وأسرية بما فى ذلك قصة زواجه، مثلما يتقاطع مع مذكرات شفيق الحوت فى رواية الكثير من الدعابات و"النهفات".
كما يسرد ولادة طفله الأول واسمه معه.. "محمد" تيمّنًا بالوالد، وكانت كنية "أبو محمد" لصيقة به من قبل الزواج، رغمَ أنّه الأوسط بين أشقائه ولأنّه كان يوقّع بعض مقالاته وتعليقاته الفنية بالاسم المستعار "وطن محمد".
وعلى المستوى الأدبى يدافع سميح القاسم عن قصائده وأسلوب كتابتها بعد جدل نشب عقب صدور قصيدته "رسالة إلى غزاة لا يقرؤون" المستلهمة من الانتفاضة الأولى معتبرا أن السهل الممتنع "هو أشد أشكال الفنون صعوبة".
ويختتم القاسم كتابه بما يوحى بهواجس النهاية المتكاثفة على وعيه هذه الأيام فيخاطب نفسه بشطحات فلسفية منها اشتق اسم الكتاب: "ها هو رمادُكَ يتساقط فى منفضة العالم، منفضة الحياة الدنيا.. ها هو رمادك يتهاوى فى منفضتك. وإلاّ فماذا ظننتَ يا أخى وصديقي؟ ماذا ظننتَ دُنياك أيّها الإنسان الذى أرادَ أن يكونَ شاعرًا وأيّها الشاعر الذى أرادَ أن يكونَ إنسانًا؟. ماذا ظننت؟ هل فاتَكَ أنّ دُنياكَ ليست سوى منفضة؟
"ماذا ظننتَ دُنياك أيّها الإنسان الذى أرادَ أن يكونَ شاعرًا وأيّها الشاعر الذى أرادَ أن يكونَ إنسانًا؟. ماذا ظننت؟ هل فاتَكَ أنّ دُنياكَ ليست سوى منفضة؟"
بَلَى. إنهّا مِنفضة.
إِنّها مُجرَّد مِنفضة..
ويتابع بنفس المؤمن "ها أنتَ مُنهمك بضرورة الاستعداد للحياة وضرورة الاستعداد للموت، لكنّك مؤمن بأنّه لا بُدّ من فرجٍ قريب.. بقدر إيمانك بأنّك من حياة إلى موت ومن موت إلى حياة.. ومن رملٍ إلى رمل.. ومن تُرابٍ إلى تُراب. ومن ماءٍ إلى ماء.. ومن رمادٍ إلى رماد.. ومن قمحٍ إلى ورد.. ومن كلّ شىء وأى شيء إليها، إلى المنفضة، فما هى إلاّ منفضة.. إنّها منفضة.. مُجرّد منفضة.. إنّها مُجرَّدُ مِنفضة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة