أخشى أن تستمر إدارة السيسى فى التعامل الموسمى مع إفريقيا، بعد الأداء الجيد الذى عادت به مصر فى القمة الأخيرة، ومصدر خوفى ينبع من تآكل العلاقات والكوادر الدبلوماسية الفاعلة فى هذا الملف طوال عقدين كاملين، وذلك بالرغم من وجود معهد للدراسات الإفريقية، وباحثين فى هذا المجال، ومصالح تجارية وسياسية وأمنية وجغرافية أيضا، لكن مراكز الدراسات، والاجتهادات النظرية، والبيانات المناسباتية لا تصنع سياسة، السياسة تصنعها المصالح المشتركة، والمشاريع العملية، والحضور الدائم.
ذات صباح شتوى قبل أيام من الحرب الأمريكية على العراق، كنت مع وزير الحربية ورئيس المخابرات الأسبق أمين هويدى فى منزله، ومعنا الدكتور أنور عبد الملك، وتطرقت المناقشات إلى دور مصر فى المنطقة، ورؤية الإدارة المصرية للمستقبل، كان هويدى فى السنوات الأخيرة من حياته عاطفيا وشديد التأثر، لدرجة أنه بكى أمامى 4 مرات فى آخر 7 لقاءات جمعتنا، يومها أدمعت عين الرجل وهو يتحدث عن هوان مصر مع جيرانها، وأفاض فى الحديث عن طبيعة علاقتنا بالسودان وليبيا، والمخاطر التى تنتظرنا فى العمق الإفريقى، وأراد الدكتور عبد الملك أن يداعب هويدى ويخفف من تأثره فتحدث عن عملية تدمير الحفار الإسرائيلى على شواطئ ساحل العاج، ومقدرة محمد نسيم (نديم قلب الأسد) على تمرير المتفجرات والتجهيزات عبر حدود 7 دول إفريقية، حتى تم تنفيذ العملية بنجاح، بالتعاون مع شخصيات إفريقية، والاستفادة من ترتيبات لوجستية سهلت الحركة والقدرة على المناورة والخداع.
التقط الجنرال خيط الحديث بحماس، وقال إن الأمن القومى الآن فى أضعف حالاته، نظرا لغياب الرؤية، وبالتالى مجموعة الإجراءات التى يمكن اتخاذها للمحافظة على أهدافنا ومواردنا فى المستقبل، وليس فى الحاضر فقط، وأشار إلى الدور الإسرائيلى فى إفريقيا، وقال بمرارة "إننا نعيش عصر الفرص الضائعة فى كل الجبهات".
خيبتنا فى إفريقيا إذن ليست مفاجأة، فهى معروفة لكل المراقبين منذ سنوات طويلة، لكننى سأركز اليوم على شهادة للدكتور بطرس غالى الذى يعرف خبايا الملف الإفريقى، ومدى الإهمال الذى أدى إلى ما وصفه بأنه "كوراث تهز المحيط الواقى لأمن مصر القومى، وتهدد مصادر المياه فى بلاد المنبع".
وفى الشهادة التى تضمنتها مذكراته قال غالى إن موبوتو سيسيكو حاكم زائير (الكونغو حاليا) كان شديد الاقتناع بالدور المصرى فى إفريقيا، وسعى لتأسيس حلف ثلاثى فى بداية التسعينات "يضم بلاده ومصر ونيجيريا"، يتولى تقرير مصير القارة، وطلب منى أن أدرس هذا المشروع وأعرضه على الرئيس مبارك، وبالفعل عرضته على الرئيس الذى استمع إلى مشككا، دون أن يعطينى أى توجيهات لمتابعة المهمة.
وفى فبراير 1998 التقى بطرس غالى مع رجل إثيوبيا القوى ميليس زيناوى، الذى خرج عن جدول أعمال الاجتماع الخاص بالفرانكفونية وقال لغالى: "أفضل أن نتاقش موضوع العلاقات بين مصر وإثيوبيا، أنت خبير بهذا الملف، ونريد أن نتباحث فيه.. إن لبلدينا هدفين مشتركين محاربة الأصولية الإسلامية، وتقاسم مياه النيل.. لكن لدى تقارير مؤسفة عن أعمال تقوم بها مصر، تشعرنى بحالة من العداء تجاه بلدى.
وبعد ساعتين من المحادثات حاول غالى خلالهما، أن يطمئن زيناوى بأن المصالح الاستراتيجية المشتركة أقاضى أن نتجاوز مظاهر سوء التفاهم، وتجاوب زيناوى وأظهر مودة واحتفاء أكبر بغالى والوفد المرافق له، وعندما عاد غالى إلى القاهرة التقى الرئيس مبارك فى 2 مارس 1998 ليحيطه علما بمحادثاته مع زيناوى والجهود التى يجب أن يبذلها البلدان لاقتسام مياه النيل، لكن الرئيس مبارك قفز على الموضوع وأهمل الرد.
يعلق غالى: يسمعنى الرئيس مبارك بانتباه، ولكننى أشعر به منشغلا بالمشاكل قصيرة المدى أكثر مما نشغله قضية المياة التى تبقى بالنسبة له مشكلة بعيدة المدى. ويضيف غالى فى الحقيقة أن قضية مياه النيل تشكل بالنسبة لى اهتماما كبيرا، ولا أتصور أن تكون هذه القضية فى مطلع أولوياتى بينما هب بعيدة عن تفكير الرئيس، بل والإدارة كلها، فقد التقى غالى فى المساء مع الوزير عمر سليمان مدير المخابرات والذى يتابع عن كثب العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا، وأحاطه علما بما دار بينه وبين زيناوى ومبارك، ويقول غالى: وعدنى سليمان بالاهتمام بهذه القضية التى يعتبرها أساسية، لكن لم يحدث شىء".
يضيف غالى فى مذكراته: التقيت بعد ذلك مع أسامة الباز المستشار السياسى للرئيس وأفصحت له عن مخاوفى من السياسة المصرية فى إفريقيا، وقلت له بوضوح: إنكم تهملون ملف السودان ومشكلة مياه النيل.. لقد تخليتم عن أى حضور فاعل فى منظمة الاشتراكية الدولية، منذ أن استقلت من منصبى كنائب للرئيس عام 1991.
ويسجل غالى ملاحظة ذات مغزى خطير يقول فيها:"خلال مقابلاتنا كان أسامة الباز يدون بصورة شبه دائمة، بعض الملاحظات، التى لا يلبث أن يضيعها على أيه حال.. لكنه اليوم (الأحد 3 يناير 1999) لا يقوم حتى بهذا المجهود.. يكتفى كعادته بهز رأسه، ويقول بصوته الأخن عبارة من هنا وعبارة من هناك.
وبعد ذلك بيومين (الثلاثاء 5 يناير) كان الموضوع لا يزال يسيطر على تفكير غالى ففتحه مع وزير الخارجية عمرو موسى. يقول غالى: بعكس أسامة الباز يعى عمرو موسى أهمية الملف السودانى وإدارة مياة النيل، وكان يرى أن القضية الفلسطينية فى طريقها إلى حل دولى، لذلك يجب علينا العودة إلى مشكلة النيل، وتكريس كل جهدنا لتوطيد العلاقات مع السودان، وهو موضوع كانت له الأولوية دوما فى نظر الدبلوماسية المصرية، لكن هذا الملف للأسف (والكلام لموسى) يخضع لعدة سلطات: رئاسة الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، ووزير الخارجية، ووزير الرى، وأنا متخوف من هذا التشتت.. لأنه قد يهدر جهودنا.
ويسأله غالى عن مشكلة "منظمة الاشتراكية الدولية"، مؤكدا أنها وسيلة مهمة أهملناها منذ عدة سنوات، فلماذا لا يتم تسمية دبلوماسى للمساعدة فى هذا الدور، بحضوره الاجتماعات والمؤتمرات الدولية فى إفريقيا؟.
لكن موسى لم يرد، لأنه مثل جميع الدبلوماسيين الرسميين لا يبدى اهتماما كبيرا بالمنظمات غير الحكومية.
ويسجل غالى حكاية طريفة تكشف مهزلة التعامل فى هذا الملف الخطير، فأثناء زيارة عمرو موسى لدولة مالى أهداه الرئيس عمر كونارى "ماعز"، واهتم الوزير المعروف بمراعاته للبروتوكولات الرسمية بإرسال عدة برقيات مشفرة إلى القاهرة، يسأل فيها: ماذا عليه أن يفعل بهذا الضيف غير المتوقع الذى يعيش فى حديقة السفارة، لكن القاهرة لم ترد، فترك موسى الماعز تحت تصرف السفير عصام فتح الله، ولم يعطه أى تعليمات حول مصيره!، ولما تلقى غالى نفس الهدية من كونارى نصح السفير ضاحكا أن يذبح الجدى ويوزع لحمه على المحتاجين، دون أى حاجة لسؤال القاهرة وانتظار الجواب!
هذه كانت طبيعة اهتماماتنا بإفريقيا، فهل تغير الحال الآن؟، نأمل أن نتابع نشاطا ملحوظا مع إفريقيا على كافة الأصعدة، لنمسك بالفرص الضائعة، وليس بلحم الماعز وفقط!.
* لا أحد مسئول عن هزيمتى، أنا المسئول لأننى كنت أخطر عدو لنفسى (نابليون بونابرت).
جمال الجمل
برقيات "الماعز" وسياسة " الفرص الضائعة" فى العمق الإفريقى
الأربعاء، 09 يوليو 2014 08:04 م