عادة فى الحروب ما يسبق الهجوم ما يسمى بالتمهيد النيرانى لأرض المعركة، حيث يتم إمطار مواقع العدو بكثافة نيران عالية تدفع فئرانه إلى الاحتماء بالجحور، وبذلك يتسنى للقوات المهاجمة التقدم فى أرض المعركة دون معوقات.. ومن يطالع الصحف المصرية العامة والخاصة ـ وكذا وسائل الميديا ـ وما تحمله من عناوين متعلقة بالدعم والأسعار، وتصريحات السادة المسئولين بهذا الخصوص، يشعر بأن الحكومة قد أعلنت الحرب على الشعب، أمر مفزع، وشىء مخيف يهدد حياة الفقراء فى هذا البلد، نعم هناك كارثة تنتظر الدولة المصرية لو لم تتخذ تلك الإجراءات، ونفق مظلم لو دخلناه ما خرجنا منه إلى يوم يبعثون، ونحن نقدر لحكومة المهندس محلب رغبتها فى التقدم دون معوقات بعد أن قررت التدخل الجراحى لاستئصال المرض.. فقد شخصت الحكومة الداء، ووصفت الدواء، وكان من ضمن الدواء رفع الدعم بالكلية عن الوقود والطاقة وسلع أخرى.
وقضية الدعم هى فى الأصل من المضحكات المبكيات فى آن معاً، لأن الدعم كفكرة دخلت فى الأصل لمعالجة الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء فى المجتمع، ومحاولة ردم الهوة الواسعة بين القادرين اقتصادياً وغير القادرين.. وبمجرد إقرار الدعم برزت إلى الوجود مشكلة أخرى، هى مشكلة وصول الدعم إلى مستحقيه، وأصبحت لدينا معضلة فى تحديد مستحقى الدعم، حيث تبين من خلال التطبيق أن الدعم ينتفع منه الجميع، بل أن القادرين أكثر انتفاعاً به من غيرهم باعتبار أن لديهم القدرة والحظوة والسرعة فى الوصول إليه.. ثم انتقلنا إلى نظرية الدعم النقدى، والدعم العينى، وأيهما أجدى وأنفع وأنجع ؟ . كل هذه الانتقالات بما تحتاجه من وقت للمناقشة والدراسة والجدل وتشكيل اللجان تمر على فقير يكتوى بفقره، ويلتهب ظهره بسياط الحاجة الملحة للماء والغذاء والكساء والسكن والعمل والتعليم والزواج، ولا يجد فى يده ما يعينه على مواجهة متطلبات الحياة، ومطلوب منه أن يتصبر حتى تمر مصر من عنق الزجاجة، وكأنه الوطنى الوحيد الذى يتعين عليه أن يضحى من أجل الوطن . لقد أكل منه الصبر اللحم حتى العظام، بل إنه امتص النخاع من العظام . وكأن هناك من لا يريد، ولا يرغب فى إخراج الفقراء من دائرة الفقر الملعونة، فالفقراء هم وقود الحياة الذى يحترق من أجل أن يحيا الآخرين، ومن هنا تولدت الرغبة والإرادة فى الإبقاء عليهم على وضعهم وبحالتهم . فبدلاً من ابتكار آلية اقتصادية تحول بين القادرين وبين مزاحمة الفقراء فى دعمهم، وابتلاعه ضمن أشياء أخرى يجرى ابتلاعها فى هذا الوطن بحق أو بغير حق . أو ابتكار آلية اقتصادية ترفع غير القادرين إلى مستوى القادرين، فلا تكون هناك حاجة إلى الدعم أصلاً، وجدنا الحكومات المتعاقبة تتاجر بقضية الدعم عند مناقشة إخفاقاتها، لأنهم صوروا للفقراء ـ وهماً ـ أن الدعم خط أحمر لا يجوز الإقتراب منه، وتحول الدعم من حل لمشكلة إلى مشكلة فى حاجة إلى حل . وهكذا وجدنا أنفسنا كدولة وكشعب فى مواجهة مشكلة مزمنة تحتاج إلى تدخل جراحى عاجل . هذا التدخل الجراحى يتعين أن يتحمل الجميع ضريبته، كل بحسب قدرته . وهذا يعنى أن القضية ليست فى رفع الدعم بالكلية، ثم تترك الأمور إلى آلية السوق بعد ذلك يتحكم فى الأوضاع كيف يشاء، لأن فى ذلك ذبح للفقراء مرتين، مرة بيد الحكومة برفعها للدعم، وأخرى بأيدى القادرين بإلقاء نصيبهم على عاتق الفقراء . ويكون ذلك بقيام التجار ورجال الأعمال بإلقاء تكلفة رفع الدعم على عاتق المستهلك، حيث يتم إزاحة تكلفة رفع الدعم إلى المستهلك النهائى، وهو لا يملك إزاءها دفعاً . فهل ستكتفى الحكومة بالمناشدات والتعويل على الحس الوطنى فى عدم الالتجاء إلى هذا الأسلوب من قبل المنتجين والوسطاء من تجار جملة وتجزئة ؟ . أنا أعتقد أنه حرى بالحكومة أن تبحث فى أجندتها عن آلية اقتصادية فاعلة فى محاربة هذه الظاهرة، ولتكن تلك الآلية دخول الدولة كمنافس قوى فى الأسواق . وحتى بالتطبيق الصارم لآلية ضبط الأسعار المختارة، يظل الفقير وغير القادر يئن تحت وطأة الأسعار التى كانت سائدة قبل رفع الدعم، لأنه فى الأصل لم تحدث أى معالجة للاختلالات الهيكلية فى الأجور . ويظل الفارق بين الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور يمثل هوة عميقة تستعصى على الردم . أن رفع الدعم على هذا النحو الجراحى دون البحث فى آلية لضبط الأسعار يمثل حرباً على الفقراء، بما يتعارض ويتناقض مع ما دعى إليه السيد رئيس الجمهورية . خاصة فى ظل التقاعس الملحوظ من جانب رجال الأعمال عن دعم الاقتصاد المصرى .
