"أصحى يا نايم واحد الدايم" جملة طالما ترسخت وتعلقت بأذهاننا بمهنة المسحراتى، فأينما سمعناها تبدأ ذاكرتنا فى رسم صورة ذهنية للرجل العجوز الذى يرتدى جلبابا قديما ويتكئ على عصاه المتهالكة، ويمسك بيده طبله ويجوب الشوارع ليوقظ الناس فى معاد السحور وينادى على الأطفال بأسمائهم ليخلق جوا من البهجة وسط أهالى لمنطقة.
ولكن مع الوقت وظهور الكهرباء ووسائل الإعلام المختلفة وسهر الناس على المقاهى وأمام شاشات التليفزيون، فلم يعد الناس بحاجة إلى هذه المهنة وأصبحت مجرد فلكلور مرتبط بالأجواء الرمضانية، وكلما تقدم الوقت أخذت طريقها نحو الانقراض حتى اختفت تماما من الشارع المصرى إلا فى بعض المناطق الشعبية والقرى، ولكنها انتقلت وصمدت على القنوات الفضائية حيث قام أكثر من فنان بأدائها فى برامج تليفزيونية تذاع فى وقت السحور.
وللمسحراتى تاريخ وأصول تعود لأيام الرسول (ص) حيث كان الصحابيان "بلال بن رباح" و"عبد الله بن أم مكتوم" رضى الله عنهما، هما أول من عمل فى تلك المهنة، فكان الأول يؤذن ليتسحر الناس، والثانى ليمسك الناس وينبههم بعدم تناول الطعام.
وكان المصطفى (ص) دائما ما يقول:- إن بلالا ينادى بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم وكان ابن أم مكتوم هو الذى يتولى أذان الفجر، ومن أكثر من اشتهر فى هذه المهنة "الزمزنى" فى مكة الذى كان يصعد إلى المئذنة من فوقها معلنا بدء السحور، وفى كل مرة يكرر فيها النداء كان يدلى بقنديلين كبيرين معلقين فى طرفى حبل يمسكه فى يده حتى يشاهدهما من لا يسمع النداء.
أما أول من نادى وغنى لتسحير الناس فكان "عنبسة" أو عنتبة ابن إسحاق وهو والى المنتصر على مصر عام 228 هـ، وكان يمشى بنفسه من مدينة العسكر فى الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص ويوقظ البيوت فى تلك المنطقة، وينادى "يا عباد الله تسحروا فإن فى السحور بركة".
وفى العصر المملوكى، كادت أن تختفى هذه المهنة لولا الظاهر بيبرس الذى عين فيها صغار رجال الدين، وفى العصر الفاطمى كان الحاكم بأمر الله يأمر جنوده بالدق على أبواب البيوت لإيقاظ الناس، وفى عصر الدولة الطولونية دخلت المرأة المجال، فكانت تجلس خلف المشربية وتغنى بصوت عذب ليستقيظ أهالى الحى على السحور، أما فى العصر العباسى كان المسحراتى ينشد شعرا شعبيا يسمى "القوما" طوال ليالى رمضان وربما كان ذلك عائدا إلى ازدهار فن الشعر فى هذا العصر.
يقول أحمد عمارة، الباحث فى التاريخ الإسلامى": كان لكل محافظة أو مكان فى مصر طريقة يعتمد عليها المسحراتى تختلف عن الأخرى، تتوافق مع عادات وتقاليد المحافظة، فكان فى القاهرة فى ذلك الوقت مع بداية ظهور الإيقاع أو الطبلة يجوب شوارع القاهرة وأزقتها وهو يحمل طبلة صغيرة ويدق عليها بقطعة من الجلد أو الخشب وغالبا ما كان يصاحبه طفل صغير أو طفلة ممسكة بمصباح لتضىء له الطريق وهو يردد نداءاته المميزة اصحى يا نايم وحد الدايم.
وكان من عادة النسوة فى ذلك الوقت أن يضعن قطعة معدنية من النقود ملفوفة داخل ورقة ثم يشعلن أحد أطرافها ويلقين بها إلى المسحراتى الذى يستدل على مكان وجودها ثم يرتفع صوته بالدعاء لأهل المنزل جميعا ثم يقرأ الفاتحة.
مستكملا": وفى مدينة الإسكندرية كان المسحراتى يقوم بعملية تسحير الناس بالدق على الأبواب بعصاه دقات منظمة وهو يردد الأدعية أو التغنى بمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وغزواته.
متابعا": أما فى الريف والقرى فكان "العمدة" هو الذى يتولى بنفسه مهمة إيقاظ أهل قريتة للسحور أو يتولى تقسيم شوارع القرية على عدد من المسحراتية ويبدأ كل منهم العمل ابتداء من ليلة رؤية هلال رمضان وحتى ليلة عيد الفطر.
كانت هناك بعض الأصوات المسحراتية مازالت تجوب شوارع الريف والأحياء الشعبية فى إصرار كبير على المقاومة خاصة وأنها تجد من يتقبلها ويعتبرها من أهم المهن والمفردات الرمضانية المميزة للشهر الكريم
موضوعات متعلقة:
بالصور.. المسحراتى وقِدرة الفول والكنفانى.. دمى قطنية مبهجة فى رمضان
اتحاد طلاب جامعة النيل يطلق حملة "كلنا مسحراتى" استعدادًا لشهر رمضان
المسحراتى.. مهنة وصى بها الرسول.. وازدهرت أيام العباسيين.. وأعادها "بيبرس" فى العصر المملوكى.. وعملت بها المرأة زمن الطولونيين
الجمعة، 04 يوليو 2014 03:22 م