كان لدى يقين دائم، بأن الكراسى لا تصنع رجالاً، وإنما الرجال هم الذين يصنعون الكراسى، فكم من رجال اعتلوا كراسى فوضعوها على علوها، وكم من رجال اعتلوا كراسى فرفعوها على وضاعتها . ومن هنا كان القول بأن الرجال هم صانعو الكراسى وليس العكس.
وقد صدقت هذه المقولة فى أعلى المناصب وأرفعها شأناً فى الدولة، وهو منصب رئيس الجمهورية، فقد اعتلى مرسى كرسى الرئاسة، وفى يده مقاليد السلطة كلها، ومع ذلك لم يصنع الكرسى منه رئيساً، بل إنه حط من قيمة الكرسى وهيبته، وكان عبئاً ثقيلاً عليه، فوضعه بعد رفعته، وما نفعته السلطات المخولة له على رحابتها.
لم يستطع مرسى أن يعى معنى منصب رئيس الجمهورية، وأنه يمثل مصر، وأنه حين يتحدث أو يسكت، وحين يعبس أو يضحك، وحين يتحرك أو يسكن، وأنه حين يلتفت يمنة أو يسرى، أو يقدم أو يحجم، فإن مصر هى من يفعل ذلك. لم يستطع أن يقنع نفسه بنفسه أنه رئيس، ليس لديه الثقة الكاملة فى ذلك، ولم يشعر أنه سيد المنصب، ومهيمناً عليه. فليس هناك رئيس جمهورية ينتظر القرارات والأوامر والتعليمات من رئيس آخر يشعر معه بالدونية، لقد كان مرسى يفعل ذلك وهو مغمور حتى أذنيه بهذا الشعور.
ولذا لم يستطع ـ ولم يكن له أن يستطيع ـ أن يقنع غيره بأنه الرئيس، لم يكن لديه الإحساس والشعور الذى يمكن أن ينتقل للآخرين من خلال ذلك الحبل السرى بين الرئيس وشعبه. ليس هذا على المستوى المحلى فحسب، وإنما لمسناه حتى على المستوى الدولى، فلو رجعنا بالذاكرة إلى الوراء، ونظرنا فى استقباله فى موسكو، أو فى ألمانيا، أو فى إثيوبيا، أو حتى فى مؤتمر القمة العربية، لأدركنا على الفور أنه فشل فى نقل الانطباع إلى الغير بأنه الرئيس، لسبب بسيط أنه فاقد لهذا الإحساس أو الشعور، وفاقد الشىء لا يعطيه. ولا يعنى هذا الحط من قيمة الرجل كأستاذ جامعى، وإنما فقط بيان لإمكانياته وقدراته التى تقف عند هذا الحد. ولعل مقارنة بسيطة بين مرسى والمستشار عدلى منصور تكشف على نحو فاضح الفرق الهائل بين الرجلين، فعدلى منصور قَبِل منصب رئيس الجمهورية على نحو مؤقت فى أصعب ظرف تاريخى تمر به مصر فى العصر الحديث محلياً ودولياً، ولو عُرض الأمر على مرسى فى ظل نفس الظروف لفر هارباً.
أعاد عدلى منصور لخطابات رئيس الجمهورية وقارها وهيبتها ومعناها، حيث كان يزن كلماته بميزان من يعى الهدف، أين تصيب الكلمة؟ ومن تصيب؟ ولماذا؟ لا تزيغ كلمة عن الهدف أو تنحرف عنه، لأن مصر هى من يتكلم.
كانت حركات الرجل وسكناته، نظراته ولفتاته، كل أولئك كان بالمسطرة والقلم، لأنه يدرك أنه رئيس مصر، وأنه فى النهاية هو المسئول ـ محلياً ودولياً ـ بصفته رئيساً للدولة المصرية. لم يخف ولم يرتعش ولم يفقد تماسكه، وإنما تصرف بثقة من يهيمن على الأمر، ونقل هذا الانطباع إلى الآخرين. وأظن أن الرجل قد ترك أثراً هائلاً فى تاريخ مصر، على قصر مدته. لقد شعر معه المصريون بأن لهم رئيساً، تفاعلوا معه وتفاعل معهم، وانفعلوا به، وانفعل بهم. ومن هنا قيل أن الرجل أعاد للمنصب هيبته ووقاره، رجل صنعه كرسى الرئاسة، لأن الكرسى صادف رجلاً من الذين يصنعون الكراسى. ولما غادر الرئاسة على نحو غير مسبوق فى تاريخ مصر لم تسلبه المغادرة المكانة والقيمة كشأن آخرين.
لعلنا بذلك ندرك الفرق بين الرجلين، وهو فارق يستعصى على القياس بالمقاييس التقليدية. أما الرئيس السيسى فحدث ولا حرج ـ ليس تزلفاً أو نفاقاً ـ لأنه فى الأصل خريج المدرسة الوطنية، مصنع الرجال. وحين نطلق على القوات المسلحة عبارة مصنع الرجال، فليس ذلك من قبيل المبالغةـ أو التحيز ـ وإنما تقرير لواقع معلوم ومشاهد، وليس فى حاجة إلى إقامة الدليل على صحته. فهؤلاء الرجال يتعلمون فنون القيادة فى المدارس العسكرية والمعاهد والكليات العسكرية، ليس تعليماً نظرياً، وإنما تدريباً عملياً وممارسة فعلية. ويتدرجون فى مستويات القيادة طوال مدة خدمتهم. إنها مدارس تعيد صياغة وبناء الشخصية المصرية من جديد.
فالرجل العسكرى رجل مصنوع وفقاً للمعايير العلمية المتعارف عليها. ولا معنى للمقارنة بين رجل تربى فى أحضان جماعة مناهضة للدولة تمارس عملاً سرياً فى الظلام ،ورجل تربى فى أحضان مؤسسة وطنية من مؤسسات الدولة. رجل قضّى حياته فى العمل خارج إطار القانون، ورجل قضّى حياته فى العمل فى إطار القانون. رجل يسعى إلى تخريب مؤسسات الدولة لإحلال مؤسساته محلها، ورجل يعمل على حماية مؤسسات الدولة وصيانتها. والفرق بين التربيتين واضح وضوح الشمس، لأن الفرق بين الجماعة والدولة فى التربية، كالفرق بين مؤسسة الأحداث والمدرسة النموذجية، لا شك أن المنتج سيكون مختلفاً كل الإختلاف.ومن هنا فإن المقارنة لا ريب أنها ستكون ظالمة، لأنها ليست بين متماثلين، وإنما بين عالمين مختلفين.
السيسى
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عبدالرازق يوسف محمد رشدان
اتمنى واحلم