ولد بالكوفة نحيل الجسم ذلك لأن أخاه زاحمه على رحم أمه فلم يدع له مجالا للنمو.. ولكنه لم يستطع بعد ذلك أن يزاحمه لا هو ولا غيره فى مجالات العلم والحلم والحفظ والفهم والعبقرية، وكانت المدينة المنورة مشتهى نفسه وقلبه، فكان يمضى إليها ليلتقى بالصحابة، ويأخذ منهم، وكان هذا الرجل متوقد الذكاء مرهف الذهن قوى الذاكرة، فقد قال عن نفسه "ما كتبت سوداء فى بيضاء، أى ما سجلت كلاما فى ورق، ولا حدثنى رجل بحديث إلا حفظته.. وكان هذا الرجل مولعا بالعلم شغوفا بالمعرفة، يبذل فى سبيلها النفس والنفيس قال: "لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فحفظ كلمة واحدة تنفعه فيما يستقبل من عمره، لرأيت أن سفره لم يضع".
وكان لهذا الرجل حلقة علم فى جامع الكوفة، يلتف الناس حوله زمرًا زمرًا.. ولما آلت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان، كتب للحجاج وإلى العراق أن ابعث لى رجلا يصلح للدين وللدنيا أتخذه سميرًا وجليسًا، فأرسل له الحجاج هذا الرجل الذى نتحدث عنه.. فأخذ الخليفة رأيه فى كل معضلة، وبعثه سفيرًا بينه وبين الملوك... وذات مرة أرسله فى مهمة إلى ملك الروم، فأعجب به ملك الروم، ومن سعة أفقه وذكائه وسعة إطلاعه، فاستبقاه، أى أجلسه عنده أياما كثيره على غير عادة الملوك مع السفراء، ولما ألح عليه الرجل أن يأذن له بالعودة، سأله ملك الروم، أمن أهل بيت الملك أنت؟ فقال لا، إنما أنا رجل من جمله المسلمين، فقال له إذا رجعت فأبلغ صاحبك، أى الخليفة عبد الملك بن مروان، بكل ما يريد معرفته، وأعطه هذه الرسالة، ورجع الرجل للخليفة، وأجابه عن كل ما سأل عنه، وحكى ما رأى، وعندما هم بالانصراف، أعطى الخليفة الرسالة وانصرف، فلما قرأها، قال ردوه (أى نادوه)، فلما رجع للخليفة قال: أعلمت ما فى هذه الرسالة؟ قال الرجل لا يا أمير المؤمنين، فقال الخليفة "لقد كتب إلى ملك الروم يقول عجبت للعرب كيف ملكت عليها رجلا غير هذا الفتى؟ فبادره الرجل قائلًا: "إنما قال هذا لأنه لم يرك، ولو رآك يا أمير المؤمنين لما قاله"، فقال الخليفة: "إنما كتب إلى بذلك لأنه حسدنى عليك، فأراد أن يخصنى ويغرينى بقتلك والتخلص منك.. وقد بلغ الرجل الذى نتحدث عنه منزلة كبيرة علمًا وتواضعًا وحكمة..
سأله أحدهم عن مسألة، فأجاب، قال عمر فيها بكذا.. وقال على بن أبى طالب فيها بكذا.. فقال له السائل، وأنت ماذا تقول يا أبا عمرو؟ فابتسم فى استحياء وقال: "وما تصنع بقولى بعد أن سمعت ما قاله عمر وعلى، وذات مرة سأله أحد أصحابه: ماذا تقول يا أباعمرو فيما يتكلم فيه الناس من أمر هذين الرجلين عثمان وعلى؟ فقال الرجل إنى والله لفى غنى عن أن أجئ يوم القيامة خصيما لعثمان بن عفان أو لعلى بن أبى طالب رضى الله عنهما، وكان الرجل الذى نتحدث عنه مثالا للتواضع فقد اعتاد أعرابى حضور مجالسه، وكان يلوذ بالصمت فسأله لماذا لا تتكلم؟ فقال الأعرابى له: اسكت..فاسلم، واسمع.. فاعلم، وأن حظ المرء من أذنه يعود عليه.. أما حظه من لسانه فيعود على غيره.. فظل الرجل يردد ما قاله له الإعرابى طوال حياته، وكان الرجل الذى نتحدث عنه بليغ الكلام وحسن التصرف، كلم أمير العراقين فى جماعة حبسهم، فقال له أيها الأمير، إن كنت حبستهم بالباطل.. فالحق يخرجهم.. وإن كنت حبستهم بالحق، فالعفو يسعهم، فأعجب الأمير بقوله وأطلقهم كرامة له، وقال حسن البصرى عن هذا الرجل الذى نتحدث عنه.. يرحمه الله فلقد كان واسع العلم.. عظيم الحلم.. وأنه من الإسلام بمكان.. عزيزى القارى الرجل الذى نتحدث عنه هو "عامر بن شرحبيل" المعروف بـ "الشعبى"
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
زهر الورد
رحمه الله
رحمه الله وانزله ما يستحق من منزلة
عدد الردود 0
بواسطة:
زهر الورد
رحمه الله
رحمه الله وانزله ما يستحق من منزلة