* يوسف شاهين يبدأ عامه السابع بنصائح فى الفن والحياة
هل تتذكر مخرج مجنون اسمه يوسف شاهين؟
إذن "جو" لم يمت .
تقول الحكاية فى فيلم "اليوم السادس" أن مريض الكوليرا هو شخص زاره الموت بالفعل، لكن الموت لا يستطيع أن يبقى فى الحياة لأكثر من ستة أيام، فإذا صمد المريض حتى فجر اليوم السابع، فإنه لن يموت.
وشاهين صمد ضد النسيان 6 سنوات كاملة بعد رحيله فى مثل هذه الأيام من عام 2008.
هذا المدخل الغرائبى المفكك الذى يخلو من المنطق التقليدى، يشبه إلى حد كبير طريقة تفكير شاهين، وأسلوب السرد السينمائى الذى يفضله، حيث يذهب إلى الفلسفة لكن من دون تأمل أو تأنى، فهو متسرع فى التفكير والتعبير لدرجة "التأتأة"، كما يذهب إلى التاريخ، لكنه لا يصبر على إيقاع الماضى، ولا اللغة الرصينة، فيأخذ معه لغة الشارع وألفاظ اللحظة وسخونة الإيقاع.
هذا هو شاهين الذى عرفته، وأحببته، ودخلت معه فى نقاشات عنيفة، لكنها لم تغضبه منى يوما، كان يسمينى "الواد اللمض"، وكنت أعتبره أفضل المجانين فى حياة مصر، وكنت أعتبر موعد عرض فيلمه الجديد "عيد سينمائى وثقافى"، وموسما للإبداع وتلميع الروح، وطبعا لم يكن متفردا فى ذلك، فالأعياد كانت تشمل صدور ألبوم جديد لمحمد منير وفيروز، وديوان شعر لمحمود درويش، وأى فعل مجدد يخرج عن الموجود ويطمح للمنشود.
عقب إصابته بنوبة قلبية لأول مرة أثناء تصويره فيلم «العصفور»، نظر يوسف شاهين فى المرآة، واستغرق فى النظر طويلا، لم يكن يحاول رؤية وجهه، كان يتطلع لرؤية قلبه.
قال لى ذلك مرة فى أحد حواراتنا، ولم أتوقف كثيرا عند المشهد، لكنه أدهشنى، ولم يخرج من خيالي، فسألته فى اللقاء التالى عن هذا العبث: فاكر لما قلت كذا؟
قال بطريقته العفوية: أيوه عاوز إيه؟
قلت له: ماذا رأيت؟
قال مبتسما: قرف
قلت بتحدي: أنا عاوز أعمل حوار تفصيلى عن هذا القرف
قال: ده مش شعل صحافة
قلت: مش مهدى حذرك فى فيلم "حدوته مصرية" من أفلام السيرة الذاتية، وأنت قلت له: نتكلم بكل صراحة ونقول كل حاجة.
قال: أى إبداع هو أن تقول حاجة محددة، مش تتكلم فى كل حاجة، هو رغى وخلاص؟
قلت: لكنك قلت لى أكثر من مرة أن شجاعة الإنسان تقاس بتعريته لنفسه، وليس بتعريته للآخرين، فلماذا تخجل الآن من تعرية ذاتك؟
قال: كلمة "التعرية" شكلها قليل الأدب، بس عاجباني، فهى مناسبة ومعبرة، لكن سيبك من حكاية الحوار دي. الصحافة للسينما مش للحياة الشخصية.
لم يتم الحوار، لكنه تحول إلى دردشة إنسانية أهم كثيرا من الحوار، عرفت من خلالها أن شاهين عندما نظر فى مرآة الذات رأى طفلا يحاول الانتقام منه، وأسرة مفككة، وعالماً ينهار، وعالما يقوم، واحتكاكات ومماحكات، وتناقضات وتوافقات، وقصص حب وعداء، وصراعا انتهى جانبا منه بالرضا، وجانبا بالنسيان والقطيعة.
بعد فترة، ومع التحضير لإصدار مجلة "الفن السابع" طلبت منه مشاهدة مجموعة من أفلامه لإعداد دراسة تفصيلية للمجلة، ووفر لى غرفة فى مكتبه لمشاهدة الأفلام مع كل ملفات الأرشيف، واكتشفت أن شاهين ضحك علينا جميعا، فهو لم يقدم اعترافات ذاتية فى أفلام السيرة، لأنه تحدث عن الآخرين أكثر مما تحدث عن نفسه ورسم صورة للعالم تاهت فى زحامها صورته الشخصية الفردية المحددة لصالح صورته الإنسانية المنفتحة على أفق أوسع، بل وبدا كأنه لا يتذكر اسمه بالضبط، فلم نعرف هل هو "يوسف شاهين" أم "يحيى شكرى"؟، لأن هذا الـ"ى. ش" خلع ثيابه الذاتية الضيقة كما فعل جده الإسكندر الأكبر بأنى ومؤسس مدينته الأم، لكن "ى.ش" لم يرتد ثياب كهنة آمون وينتمى إلى لعبة الانتماء الضيق لأسباب سياسية أو تكتيكية، بل ذهب إلى أبعد ما ذهب إليه الإسكندر وارتدى ثياب "الإنسان الكونى المطلق"
"لا يهمنى اسمك.. لا يهمنى عنوانك
لا يهمنى لونك.. ولا ميلادك مكانك
يهمنى الإنسان ولو مالوش عنوان"
هكذا لم يضع شاهين حدودا فاصلة بين ذاته والعالم، إنه لا يكتب سيرة ذاتيه فقط إنه يكتب أيضاً جانبا من تاريخ الحياة والناس.
"أبدأ من ذاتى، ثم الإسكندرية، ثم، مصر، ثم العالم كله، واتجه بتفكيرى لفهم حركة التاريخ ودوافع الإنسان فى هذا الملعب الخرافى الذى نعيش فيه.
ذات مرة كنا نناقش فيلم الاختيار، وتسرعت وقلت له أنه اقرب إلى شخصية محمود البوهيمى، فحدثنى باستفاضة أنه محمود وسيد معا، وأضاف ضاحكا، وأنت كمان، وكل الناس محمود وسيد مع بعض، بس الفرق مين المسيطر ومين اللى بيمشيك!
هكذا كان شاهين يرى أن الفصل بين محمود وسيد بداخلنا هو الذى يكرس بداخلنا تناقضات أعمق وأشمل تؤدى إلى شيزوفرينيا لا تفرق بين الأفراد والمجتمعات، فإذا كان الكاتب والدبلوماسى "سيد" بطل فيلم"الاختيار" قد تصور أنه يمكنه تجديد ذاته وتوسيع مساحات الاخضرار والحيوية فى حياته المعدنية البراقة عن طريق قتل توأمه "محمود" الصعلوك المثقف البوهيمى فإن الطفل "يحيى شكري" فى فيلم "حدوتة مصرية" يعدل عن قتل نفسه ويلجأ إلى المصالحة مع ذاته المتجاوزة لمرحلة الطفولة بعد أن تطهر المخرج المشهور من آثامه عبر حيلة الاعتراف فى النهاية.
ربما لهذا السبب كان شاهين يصر أنه لازال شابا، بل وطفلا مشاكسا، لقد تعلم خطورة التنكر للآخر داخل ذاته وفى العالم الواسع أيضا.
قطع:
تختفى الثرثرة ويعلو صوت موسيقى كلاسيكية من باليه "كارمن"، وتذوب الصورة فى إظلام تدريجي، وتتداخل مع الموسيقى أصوات شخصيات شاهينية مركبة تردد عبارة محرفة من هاملت لصديقه هوراشيو: "هناك أشياء بين السماء والأرض تلخبط النافوخ"
(وردت العبارة نصا فى فيلمى "الاختيار" و"حدوتة مصرية").
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مش شرط ابدا ان اى برتريه يكون لدوريان جرى واى روايه لاوسكار وايلد