
مرت السنوات والأحداث وبدأ حسنى مبارك يبدو وقد تخطى العديد من الضغوط الخارجية والداخلية. كانت أقصى الضغوط التى تغلب عليها هى ضغوط الولايات المتحدة من جورج بوش واليمين الأمريكى فى أعقاب إسقاط صدام حسين، وهو ما أثار قلقا بين الأنظمة العربية المزمنة، التى تحركت بشكل فردى وجماعى لتتحدث عن التغيير وحقوق المواطنين، وبدأت بعض الدول العربية تتخذ خطوات شكلية. وفى مصر كانت المعارضة تطالب مبارك بإنهاء حالة الغموض حول مستقبل السلطة. وصل الرئيس إلى 76 عاما، واقترب من 25 عاما حاكما فردا، ولم يسمح بقيام حركة سياسية قوية، وصلت الأحزاب التقليدية إلى حالة من التفكك والصراعات، وعجزت عن أداء أى دور سياسى. ولم يكن هناك جماعة أو تيار منظم غير جماعة الإخوان التى مثلت البديل الجاهز.
كانت جماعة الإخوان التنظيم الجاهز لمنافسة الحزب الوطنى. سمح مبارك لجماعة الإخوان بالعمل العرفى شبه العلنى، من دون أن يعترف بها تماما، ولا طالبها بأن تعمل علنا وتنهى تنظيمها السرى، بينما رفضت هى التخلى عن الجماعة وتشكيل حزب، واشترطت البقاء بالصيغتين، وهى طريقة تسببت فى تعقيدات سياسية وأمنية، حيث تكونت جماعات الإسلام السياسى على ضفاف جماعة الإخوان، يسارا ويمينا، تعصبا واعتدالا، وظلت جماعة الإخوان تتمسك بمشروعها الغامض للخلافة، تغلفه بوجوه معتدلة ومتطرفة، حسب الحاجة. كانت الجماعة تتوغل برفق فى المجتمع، وتتقرب من السياسة، وما إن تصل لمواقع سياسية حتى تبدأ فى الاستقواء، فتصطدم بالسلطة، تعطلها سنين حتى تعاود الظهور، وتكرر نفس الدورة بلا ملل. حدث ذلك مع حكومات ما قبل ثورة 23 يوليو، ومع عبدالناصر والسادات، ثم مبارك. حيث كانت تستغل تفسخ نظام مبارك وتقدم وعودا بتغيير غامض، وتمتلك قاعدة تنظيمية واقتصادية، من دون أن تسعى لتطوير مشروع سياسى. وكانت تعانى من أزمات نظام مبارك نفسه، الذى بدا مقتنعا بلعبة محسوبة. من دون أن ينتبه لخطورة قتل السياسة.

مع انسداد أفق التغيير ظهرت حركات سياسية تعبر عن مطالب تغيير وطنية، وكانت أبرزها الحركة الوطنية من أجل التغيير «كفاية»، التى ضمت سياسيين وأكاديميين من كل الاتجاهات السياسية، من اليمين واليسار والوسط، وبقيت جماعة الإخوان تسمح لأفراد منها بالانضمام لـ«كفاية» من دون أن تندمج رسميا فيها، كانت حركات الاحتجاج تعبر عن مطالب تغيير، وطالبت مبارك بالتغيير، بدلا من انتظار أى تدخلات أو ضغوط خارجية. كانت هذه الحركات تحذر من حالة الجمود، وتبدى قلقا من استمرار الغموض فيما يخص انتقال السلطة فى مصر، وعدم حسم مستقبل البلاد، واستمرار التداخل بين دور مبارك ودور ابنه جمال الذى كان قد ظهر واحتل مكانه بشكل واضح فى عالم السياسة وصدارة الحزب الوطنى. وكان الحزب يعانى من التكلس، وتغيب عنه ملامح التنظيم، ويبقى مجرد تجمع مصالح يعقد مؤتمرات شكلية وحكوماته مجرد سكرتارية للرئيس.
كان مبارك يراهن على الزمن الذى سبق أن خدمه من قبل. يناور من دون أن يكتشف أنه لم يعد قادرا على تجديد النظام.. وسط غموض حول إذا ما كان مبارك ينوى نقل السلطة إليه كان جمال يعمل بنفس الآليات، وحتى الحرس القديم والجديد بديا نوعا من المناورة.
كان مبارك يبدى هاجسا من الاعتداء عليه، بينما لا يبدى أى قلق لمستقبل البلاد، ويركز على أمنه الشخصى، ولا يهتم بأمن دولة كاملة بمواطنيها، ففى مجلس الشعب عام 2003 أغمى على حسنى مبارك، ودخلت البلاد فى لحظات ترقب وانتظار وقلق، انتهت، لكنها تركت سؤالا بحجم الأحداث: ماذا سيفعل مبارك؟ وقعت حرب الخليج وسقط صدام وضغطت أمريكا ولم يجد مبارك داعيا للتغيير. وفى 21 يونيو 2004 سافر مبارك إلى مستشفى عسكرى فى ألمانيا لإجراء عملية جراحية فى ظهره. وفى 23 يونيو ظهر مبارك على شاشة التليفزيون للمرة الأولى منذ إدخاله المستشفى فى ألمانيا ليطمئن المصريين على حالته الصحية. وكانت الرحلة محاطة بالغموض ولم تعلن أى جهة رسمية حالة الرئيس الذى سيسافر ويخضع للتخدير، وأعلنوا فى البداية أن العملية تستغرق فترة تتراوح بين 5 و7 أيام، لكن بدا أن الأمر سيطول وأن العملية ستحتاج إلى فترة نقاهة طويلة، وأن يتجنب خلالها أى حركة عنيفة.

سافر مبارك ولم يعين نائبا، وفوض رئيس الوزراء أحمد نظيف بصلاحيات الرئيس، ويومها قالوا إنه لا يريد أن يترك الرئاسة لشخص قوى، ويفتح الباب لصراع إذا حدث له مكروه.. وظهر مبارك وهو يرتدى ملابس النوم شاحبا فى اتصال مع البرنامج التليفزيونى «صباح الخير يا مصر»، وقال «أشكر إخواننا المواطنين المهتمين بصحتى، وأقول لهم إننى أخضع حاليا لعلاج يومى، وأقوم بالتدريبات المطلوبة.. وقال بالعامية: «أنا باتابع الشغل من هنا. مش كل الشغل.. الحكومة شغالة، وإذا كان فيه احتياج لشىء فأنا أتحدث معهم، وليس هناك مشكلة من هذه الناحية بتاتا». وقال مبارك: «كأنى واخد إجازة أسبوع. يعنى الواحد لازم يستريّح شوية. فرصة الواحد يستجم». كان الإعلام يحاول أن يقلل من حجم القلق وصورة رئيس يصر على التمسك بالسلطة، ولا يعطى أى فرصة لإغلاق الأسئلة المطروحة.
كانت الشروخ تمتد وتظهر، ومبارك بعناده يصر على تضييع كل الفرص فى النجاة والخروج الآمن، بينما يركز مبارك على أمنه الشخصى، وأهم ما كان يلفت النظر هو هوس مبارك بالأمن الشخصى، وهو ما كان يضاعف من عزلته عن الجماهير التى يحكمها ويتحرك باسمها، كانت هناك شبكة عريضة من الحراسة الأمنية تحيط بمقر إقامته فى مصر الجديدة تتعدى نظيرتها مع السادات وعبدالناصر، كتائب من الحراسة الشخصية لا يهمها أى اعتبار لحريات ومشاعر الناس العاديين، وكانت هناك أحياء بالكامل فى المدن يتم غلقها قبل أى تحرك لمواكب مبارك الرئاسية، ووصل الحال فى حالة مبارك أن طائرات الهليكوبتر أصبحت تقوم فى أغلب الحالات بتأمين المواكب الرئاسية، خاصة عند دخولها أحد الأحياء، ما يضفى طابعا تخويفيا على هذه الزيارات الرئاسية، وترعب الناس، ولم يعد مبارك يهتم بالرد على ذلك، وعندما كان البعض يثير معه ذلك كان يقول: هى مرة واحدة وبتخلص، وبعدين أنتوا عارفين إنى مستهدف والإرهاب فى كل حتة. كان الأمن هاجسه الأول والأخير، بينما كانت حالة الجمود والتكلس والشروخ تمتد داخل جدران النظام. وجرى الحديث عن تعديل الدستور ليكون اختيار الرئيس بالانتخاب المباشر كما تطلب المعارضة، وكانت الإجابات عادة تأتى مؤكدة أن مصر ليس فيها مشكلة دستورية، وأن انتقال السلطة فى مصر يتم بسلاسة. وعندما قرر حسنى مبارك تعديل المادة 76 أعلن كهنة فرعون تأييدهم، بالرغم من أنهم كانوا يعارضون أى تعديلات. فقد ارتفعت معزوفة من الحزب الوطنى، ومجلسى الشعب والشورى عن إيمان الرئيس بالديمقراطية، وحرصه على دعمها. وبدأت نقاشات حول الشكل الذى يجب أن يتم به تعديل الدستور، ليكون اختيار الرئيس بالانتخاب الحر المباشر، وبدأت عملية تلاعب والتفاف من ترزية القوانين، لضمان ألا تقود أى تعديلات دستورية إلى فوز أى مرشح غير مرغوب فيه.

كانت صورة جمال مبارك تصعد ويتم تلميعها وبجوارها تنمو صورة اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات، الذى كان ظهوره فى الحياة العامة، ضمن تحولات اجتاحت العالم بعد نهاية الحرب الباردة. عمر سليمان ظهر فى وقت ظهور رؤساء أجهزة الاستخبارات فى العالم للعلن، كانوا يتحركون ويديرون جزءا علنيا من أعمال الأجهزة. كانت فترة ظهوره فترة مرض مبارك والوعكة الصحية التى ألمت به وأغمى عليه فى مجلس الشعب، حيث كان عمر سليمان أحد الأشخاص الذين رافقوا مبارك عندما حمله الحرس إلى إحدى غرف مجلس الشعب، هو والمشير طنطاوى وفتحى سرور، رئيس مجلس الشعب، الذى خرج بعد أن أفاق مبارك. وبقى معه سليمان والمشير، ورافقه عمر سليمان بعد ذلك أثناء سفره إلى ألمانيا لإجراء عملية فى ظهره.
وكان سفر مبارك إلى ألمانيا لإجراء جراحة خطيرة سببا آخر لفتح مجال للحديث عن ضرورة تعيين نائب للرئيس لحماية مصر من الأحداث الطارئة. كانت صورة عمر سليمان تظهر فى ترشيحات الداخل والخارج، من خلال دلالات مهمة فى حياة عمر سليمان وعلاقته بمبارك، للتأكيد على أنه المرشح الأكثر حظا لخلافة مبارك، منذ خرج اسم عمر سليمان وبعض أعماله من السرية إلى العلن، بمعرفة مبارك مباشرة.
لكن الواقع يطرح جمال مبارك بكل قوة، وتشير كل الشهادات والشواهد إلى أن مبارك خلال الفترة من بداية الألفية تخلى عن الكثير من مهامه لجمال. وصعد الابن فى الحزب الوطنى وبدأ يتعامل كأنه الرئيس القادم. وكان أغلب التقارير الداخلية والخارجية تشير إلى أن جمال مبارك دخل السياسة بتشجيع من والدته سوزان التى كانت تريد أن يكون له دور بجوار والده الذى كان قد تقدم به العمر كثيرا، ولم يعد قادرا على متابعة كل ما يدور حوله. وكانت هى قوة الدفع الرئيسية وراء تحول جمال نحو سيناريو التوريث، وكان دورها فى الحياة العامة قد ازداد بشدة منذ أن أنشأت ما يسمى بحركة سوزان مبارك الدولية للمرأة والسلام، وهى حركة كانت تستخدمها لترسيخ صورتها كسيدة أولى وصاحبة نفوذ، وسبب هذا حرجا لوزارة الخارجية التى أصبحت تفاجأ بحفلات تشارك فيها سوزان مع هيئات دولية بدون علم الوزارة.

فى فترة الرئيس جورج دبليو بوش فى الولايات المتحدة، التى تزامنت مع وجود أريل شارون على رأس الحكومة فى إسرائيل، ظهر جورج تينت رئيس المخابرات الأمريكية، وأرسل شارون رئيس المخابرات الإسرائيلية إلى مصر أكثر من مرة، فى مهام خاصة، وانتهج الرئيس مبارك نفس الأسلوب، وسحب ملف القضية الفلسطينية من «الدكتور أسامة الباز»، وأسنده لعمر سليمان، خاصة مع تعقد الملف الفسطينى الإسرائيلى، والتوترات بين الفصائل الفسطينية، خاصة فتح وحماس، وأصبح عمر سليمان هو الرجل الذى تلجأ إليه كل أطراف الصراع فى الأزمات والمواقف الصعبة، بل إنه كسب ثقة أطراف من المعارضة التى كانت تعتبر تولى سليمان من شأنه أن يضخ دماء جديدة فى نظام مبارك، فضلا على أنه كان يحظى برضا الولايات المتحدة، وكان أكثر المسؤولين المصريين زيارة للولايات المتحدة منذ نهاية التسعينيات. وظهر فى مؤتمر لندن للسلام الذى رعاه رئيس الوزراء البريطانى وقتها تونى بلير فى يناير 2003، كما لعب دورا فى توقيع اتفاق القاهرة للسلام بعد اتفاقات واى ريفر وأوسلو. وبعض الجهات الدولية كانت تتعامل مع سليمان كنائب لرئيس مصر، وكلما نفى مبارك توريث ابنه جمال كان سليمان يظهر أكثر، لكن فى المقابل كان عمر سليمان ينفى رغبته فى الرئاسة، ونقلت «هاآرتس» الإسرائيلية أن أحد قادة الموساد أقام علاقات وثيقة مع سليمان، وقال إنه تحدث معه مرات عن فرصة صعوده للرئاسة. وإن سليمان لم يكتف بالنفى، بل شرح له بالتفصيل لماذا هو غير معنى، ولماذا لن يكون هو الخليفة، كما نقل عنه مقربون قوله: لا أريدالرئاسة ولا أسعى إليها والبعض لا يصدق ذلك.
كان عمر سليمان كثيرا ما يقدم نصائح لمبارك فى الملفات الداخلية، ومنها ملف التعامل مع الإعلام والصحافة، كما أنه لعب دورا فى مواجهة الجماعات الإرهابية، وكانت لدى جهاز المخابرات تفاصيل مهمة عن شبكات الجماعات المسلحة. وكتب الصحفى الأمريكى «ى. جوردن توماس» إنه قبل 8 أيام من هجمات 11 سبتمبر أخبر عمر سليمان رئيس محطة السى أى إيه فى القاهرة أن مصدرا موثوقا فيه أخبره بأن شبكة أسامة بن لادن فى مراحل متقدمة من تنفيذ عملية مهمة ضد أهداف أمريكية. كما كان يتولى مع ملف النزاع العربى الإسرائيلى العلاقات مع الولايات المتحدة والعراق، ويعالج المشاكل فى اليمن وليبيا والسودان وإثيوبيا، واتهمه رئيس الوزراء الإثيوبى السابق ميليس زيناوى بأنه حاول اغتياله أكثر من مرة، وأن سليمان كان يستخدم القبائل المعارضة لإثيوبيا لخلق قلاقل ومشكلات، بل إنه اتهم سليمان برشوة بعض زعماء أفريقيا لمواجهة تداعيات سد النهضة.

اهتمت الصحافة والإعلام الأمريكى بالبحث فى سيرة عمر سليمان، وسعت مارى ويفر، الصحفية الأمريكية، لجمع المعلومات الخاصة به من أكثر من مصدر، ونقلت عن بعض أصدقائه ممن درسوا معه فى أكاديمية فرونز لدراسات الحرب فى موسكو قوله: إن الرئيس عبدالناصر استدعانا، وقال لنا إننى أريدكما أن تعودا كارهين للشيوعية، وهو نفس ما قاله مبارك نقلا عن عبدالناصر، وقد فعل سليمان، وتقول إنها سألت منتصر الزيات عن موقف عمر سليمان من الإسلاميين، فلم يعطها جوابا على الفور، ثم قال: أحيانا يقف مع المتشددين.. وفى أحيان أخرى يكون معتدلا، اعترض دائما على تعذيب الإسلاميين، لأنه أدرك أن التعذيب يهزم نفسه فى النهاية، يرى السماح لعدد محدود بخوض الانتخابات كجزء من العملية ماداموا ملتزمين بقواعد اللعبة، وهناك من ربط بين ظهوره على الساحة السياسية وظهور جمال مبارك فى نفس التوقيت، مما يعنى الربط تلقائيا بين الخطط المستقبلية للرجلين.
وتقول مارى إن عمر سليمان كان وراء نجاح النظام فى تجاوز سقوط عملية سقوط بغداد دون مشاكل، وأهم ما يميزه لدى مبارك أنه يقول الحقيقة وما يحدث على أرض الواقع، خلاف من حول الرئيس الذين يقولون ما يريد أن يسمعه فقط.
وذكرت معظم التقارير الدولية أن عمر سليمان أبرز الشخصيات المؤثرة فى النظام المصرى، وأنه يتمتع بثقة من الرئيس مبارك، وأنه شخصية كتومة، ولديه قدرة فائقة على التخطيط الاستراتيجى، وأن هذه القدرة تجعله من أفضل الشخصيات السياسية المؤهلة لشغل منصب نائب الرئيس أو الرئيس المنتظر.
كما ذهبت بعض التقارير الأمريكية إلى أنه ينحاز إلى مفاهيم الاستقرار والأمن فى الشرق الأوسط، ويؤيد العمل الوطنى فى الإطار الإقليمى والدولى الذى يعظم من الدور المصرى، مستندا إلى الفلسفة العالمية، وأن قدرته على التفاوض السياسى وتحقيق نتائج مؤثرة ومهمة دفعت الرئيس مبارك إلى أن يحيل إليه أعقد الملفات.
أما الشعب المصرى فظل يجهل كل شىء عن الرجل، اللهم إلا اسمه، حتى ظهر لأول مرة فى التليفزيون وألقى كلمة أمام اجتماع حوار الفصائل الفلسطينية بالقاهرة، فى أول مناسبة يسمع فيها كثير من المصريين صوت الرجل الذى تردد اسمه كثيرا.
وعبر عدد من المراقبين عن ظهوره العلنى بأنه أمر مقصود لتقديمه بصورة رجل دولة، وإعداده ليكون نائبا لرئيس الجمهورية، لكن الغريب أن اسم عمر سليمان كان يتقدم ويتأخر، ونفس الأمر مع جمال مبارك الذى كان مطروحا بجانب كل التحركات. وبقى عمر سليمان لغزا مثل التوريث، بينما كان بقاء مبارك يمثل مشكلات أكثر منه حلولا.

لا يوجد من يصلح لتولى الرئاسة فى مصر حاليا.. من الصعب العثور على شخص يمكن أن يتولى هذه المسؤوليات الضخمة التى تتعلق بمصالح سبعين مليون مواطن. الرئاسة ليست منصبا هينا حتى يترشح له كل من هب ودب. يجب أن تكون هناك شروط وضمانات تنظم هذه المسألة. هذا الكلام كان يقوله مبارك ورجال نظامه والحزب حتى يبرروا المبايعة. لم تكن النية واضحة لإجراء تغيير حقيقى فى البنية المغلقة لنظام متسلط يجلس الرئيس على قمته، ويضم تحالفا بين السلطة والثروة والفساد والبلطجة لفرض سيطرة الحزب الوطنى على كل مداخل ومخارج العملية السياسية.
كشفت انتخابات مجلس الشعب 2000 عن سيطرة واضحة للمصالح والبلطجة والمال داخل الحزب الحاكم فى كل المراحل. واعترف أمين عام الحزب الوطنى ورئيس مجلس الشورى صفوت الشريف بذلك، وقال إن «هناك بين مرشحى مجلس الشعب فى الانتخابات الماضية من أنفق 20 مليون جنيه».. أما انتخابات 2005 فقد شهدت تلاعبا وتزويرا فى التصويت والنتائج، حيث أعلن قضاة شاركوا فى الإشراف القضائى وقوع تزوير فى دوائر كثيرة لصالح الحزب الوطنى، وكانت أبرز الدوائر التى شهدت تزويرا دائرة دمنهور التى كان الدكتور مصطفى الفقى مرشحاً فيها أمام مرشح الإخوان جمال حشمت، وبعد إعلان تقدم حشمت فى الأصوات تم إعلان فوز الفقى، الأمر الذى فتح باب الحديث عن التزوير لصالح مرشح الحزب الوطنى، وسارع الإخوان بنشر تقارير عن التلاعب، بينما نشرت الصحف المستقلة شهادات لقضاة يتحدثون عن التزوير، وانتشرت شهادات القضاة حول تزوير الانتخابات، وكانت سببا فى أزمة كبرى مع القضاة أخرجتهم من المنصة إلى الشارع. ودافع الدكتور الفقى عن نفسه، متهما الإخوان بمحاولة الإساءة إليه، وأكد أنه لم يفز بالتزوير.
ظاهرة بيع الأصوات واضحة فى انتخابات 2000 و2005، وكان سعر الصوت يتراوح بين 50 و500 جنيه. الحرس القديم دعم فوزى السيد حوت مدينة نصر فى مواجهة مصطفى السلاب الذى كان عضو لجنة السياسات، بالرغم من علمهم أن السيد متهم بارتكاب مخالفات، لم تكن الصورة واضحة، ووارد تحالف حرس جديد مع حرس قديم فى مواجهة ثالث، أو أن ينسق مرشح حزب وطنى مع آخر إخوان. لجنة السياسات تقدم خطابا عن الفكر الجديد، وتمارس كل التلاعبات المعروفة. مصطفى السلاب أو محمد أبوالعينين مليارديرات جاءوا من عالم السيراميك وتجارة الأدوات الصحية أو غيرها بلا خلفية سياسية وبدأوا يتوسعون فى المشروعات الخيرية وتقديم مساعدات للفقراء من خلال جمعيات مدنية على طريقة الإخوان. وعندما شنت مجموعة السياسات بإيعاز من أحمد عز حربا ضد محمد أبوالعينين باستخدام سلاح المال لإسقاطه وظف أبوالعينين سلاح المال ومشروعات خيرية، كانت أوراقا ناجحة تعلمها رجال الأعمال من جماعة الإخوان المسلمين.

«المال يشترى السلطة والسلطة تقوى المال» كان شعار المرحلة. انتخابات 2005 لم تكن انتخابات برامج. ولم يكن لدى الحزب الوطنى ما يقدمه بعد ثلاثين عاما، وعاد الإخوان ليطرحوا شعارهم «الإسلام هو الحل» الذى كان له مفعول السحر عند طرحه لأول مرة، لكنه فقد جاذبيته، وبدا شعارا فارغا بالمفهوم السياسى. وبدا أن الإخوان اعتمدوا فقط على أن الحزب الوطنى أصبح ضعيفا ومرفوضا، أتى بمرشحين مرفوضين وفاسدين، واعتقدوا أنهم يمكنهم اقتناص نجاح استنادا لكراهية الحزب الوطنى، وليس بناء على برنامج.
كان البعض ينظر للإخوان كجماعة برجماتية تجيد اللعب بكل الأوراق، لكن الواقع كان يكشف عن أن الانتهازية سمة عامة لدى كل التيارات والمرشحين، والانتخابات ترسخ للانتهازية والصفقات التحتية، والوعود الزائفة. وقد اتسم نهج أعضاء الإخوان فى البرلمان السابق 2000 بالهدوء، ولم يذكر لهم استجواب ضد الفساد أو الاحتكار أو التسلط. واكتفوا بالاستجوابات الأخلاقية التى تتعلق بفيلم سينما أو عبارة فى كتاب. ولم يهددوا الحزب الوطنى، بل ربما وجدوا من بين أعضائه من يوافقهم الاتهامات الأخلاقية التى لا تشكل انتقادا للفساد والرشوة والبنيان السياسى الفاسد.

وخلال شهور قبل 2005 كانت هناك مطالب بتعديل الدستور، خاصة المادتين 76 و77، وكان قيادات الحزب الوطنى يؤكدون أن الدستور لن يتغير، وكانت تصريحات الأمين العام للحزب صفوت الشريف والأمين المساعد جمال مبارك أو كمال الشاذلى لا تملك الإجابة عن أى أسئلة. وفى 22 يوليو 2004 أعلن جمال مبارك رئيس لجنة السياسات بالحزب الوطنى أن تعديل الدستور وإنهاء حالة الطوارئ ليست من أولويات الحزب الوطنى. وقال فى لقائه بمجلس إدارة نادى هيئة التدريس جامعة القاهرة، إنه ليس من الحكمة إثارة قضايا قد تؤثر على الاستقرار الداخلى. بينما مبارك بعد الاستفتاء الرابع على رئاسته فقد القدرة على تقبل أى تغيير، وصدق أنه ملهم ولا يوجد مثيل أو بديل له، وكثيرا ما سخر من فكرة تعديل الدستور. لكنه فى فبراير 2005 أعلن عن نيته تقديم اقتراح بتعديل المادة 76 من الدستور التى تجعل انتخاب الرئيس بالانتخاب الحر المباشر. مبارك أعلن الخبر فى خطبة بمدرسة المساعى الحميدة بالمنوفية التى تعلم فيها. وكان أمرا غير مألوف من مبارك طوال أكثر من ربع قرن، فقد انقطع مبارك عن بلدته ومن فيها، ولم تعرف أن له علاقات تربطه بمحافظة المنوفية أو بأهله هناك، وبدا كأنه يقلد الرئيس السادات الذى كان مرتبطا بقريته ميت أبوالكوم، وكان يصر على أن يطلق منها القرارات المهمة.
اتجاه مبارك إلى مدرسة المساعى الحميدة كان محاولة للخروج من ضغوط خارجية وداخلية تجد ترشحه لفترة جديدة أمرا بلا هدف، خصوصا مع عدم إعلانه بشكل بات أنه لن يترشح لفترة قادمة، وأنه لن يرشح أو يقدم جمال مبارك للسلطة. مبارك ذهب إلى مدرسته وبلدته، وتحدث عن تعديل المادة 76 ولم يتطرق للمادة 77 التى تجعل فترات الرئاسة مفتوحة. كان يستعد للفترة الخامسة دون أن يجيب على أسئلة تعيين نائب أو ينفى أو يثبت نيته فى توريث الحكم لابنه جمال، الذى كان يزداد نفوذا وسلطة وتظهر بصماته فى القرارات الحكومية وفى تشكيل حكومة الدكتور أحمد نظيف فى يوليو 2004، والتى ضمت رجال أعمال وزراء فى الحكومة للمرة الأولى، حيث انضم محمد منصور للنقل، وزهير جرانة للسياحة، ورشيد محمد رشيد للصناعة والتجارة، وأحمد المغربى للإسكان. والمفارقة أن تعديل المادة 76 كان يبدو على مقاس مبارك وجمال وقيادات الوطنى، بينما يجعل من الصعب على عمر سليمان أن يترشح من دون توقيعات من مجلس الشعب.

عندما أعلن مبارك النية فى تعديل المادة 76 لم يتلقها الشارع بتفاؤل، واتضحت النية من طريقة الصياغة الدستورية للمادة 76 التى تلاعب فيها ترزية القوانين لتكون أطول مادة فى تاريخ الدساتير المصرية، فضلا على أنها وضعت ضوابط جعلت الترشيح بعيدا عن مرشحى الحزب الوطنى شبه مستحيل. وعندما انتقلت المناقشة إلى اللجنة التشريعية فى مجلس الشعب برئاسة أحمد فتحى سرور بدأت الشكوك، هناك من اقترح أن تشكل اللجنة العليا للانتخابات برئاسة رئيس مجلس الشعب. وعضوية رئيس مجلس الشورى واثنين من الشخصيات العامة يختار أحدهما مجلس الشعب ويختار ثانيهما مجلس الشورى. وانشغل كبار ترزية القوانين بنسج وإعادة ضبط المواد لمحاصرة التعديل باشتراط موافقة أعضاء فى البرلمان والمجالس المحلية والشعب. وهناك من طالب المرشح بالحصول على مليون توقيع. صدر التعديل مانعا لأى شخص، وبدا أنه مفصل على مقاس حسنى مبارك رئيس الجمهورية والحزب الوطنى وجمال مبارك من بعده، وأعضاء الهيئات العليا للأحزاب. وتم وضع استثناءات لتسمح لرؤساء الأحزاب القائمة بالترشح. وبالفعل ترشح نعمان جمعة رئيس حزب الوفد، وأيمن نور رئيس حزب الغد الذى كان قد سبق اتهامه بتزوير توكيلات الحزب وحققت معه النيابة وتم الإفراج عنه تمهيدا لمحاكمته، وبدا أنه ينتظر عقابا ما.
بالرغم من أن مظاهرات «كفاية» بدأت تتسع فإنها لم تكن المظاهرات الوحيدة، كانت مصر تغلى بغضب وسخط ظاهر من الفقر والفساد. كل شىء يتحرك، والنظام ساكن كسطح مستنقع ليس فوقه سوى الهوام. المواطن فقد الثقة والأمل فى سياسة اقتصادية فاشلة تضاعف الديون، غالبية المصريين يعيشون تحت خط الفقر، والنظام يطلق أرقاما فى الهواء. ويعلن ارتفاع نسبة النمو من دون أن ينعكس هذا على الأغلبية الفقيرة. وكانت تفسيرات أحمد نظيف وأحمد عز وجمال مبارك لنسبة النمو المرتفعة هى تضاعف أعداد أجهزة الموبايل والثلاجات والغسالات والتليفزيونات فى المنازل.

كان الهم الأول لمجلس الشعب والشورى والحزب الوطنى وأجهزة الأمن والصحف القومية والتليفزيون هو الدفاع عن الحكم. بينما المظاهرات والاحتجاجات مستمرة، وانتقل الغضب إلى نادى القضاة، وفى الجامعات تحرك الأساتذة حرصا على الاستقلالية الأكاديمية، وطالبوا بأن تكون لأساتذة الجامعات أفكارهم التى يدافعون عنها، وليس مناصبهم المرهونة بتقارير الأمن ورضا النظام. أساتذة جامعات القاهرة وعين شمس خرجوا فى مظاهرة فى إبريل وأعلنوا رفضهم للتدخل الأمنى فى التعليم الجامعى، وقبلهم خرج أساتذة الإسكندرية والمنيا والمنصورة. كان الوضع السياسى والاجتماعى فى مصر يغلى والغضب ظاهر، ونظام مبارك يتعامل بنفس الآلية، ويعتمد على حرسه فى البرلمان والحكومة والإعلام، المشغولين بإعادة ترتيب الوضع الجديد حتى يضمنوا لأنفسهم فيه مكانا.
رؤساء المؤسسات الصحفية الذين تجاوزوا كل القوانين والدساتير والأعراف والأوضاع ظلوا يجلسون فى مناصب مغتصبة. تجاوزوا الستين والخامسة والستين والسبعين، وبدا موقفهم متعارضا مع كل القوانين والاستثناءات، كان إبراهيم نافع فى الأهرام، وإبراهيم سعدة فى أخبار اليوم، وسمير رجب فى دار التحرير والجمهورية، وكان أقرب الصحفيين لمبارك لأنه كان يدافع عنه ويهاجم خصومه، وبعد ارتفاع المعارضة لوجود رؤساء التحرير، وحصول بعضهم على ملايين وتكوين ثروات بالمليارات من خلط الصحافة بالإعلان. وكتب إبراهيم سعدة مقالا فى أخبار اليوم يطالب فيه الرئيس بعدم التجديد لهم ويهاجم أيضا من انتقد استمرارهم.

كان الشارع يزدحم بالسياسة، وبدأت حركة كفاية تنظيم مظاهرات بدأتها أمام نقابة الصحفيين بوسط القاهرة ثم مناطق أخرى، تظاهرات كانت تفتقر أحيانا إلى ملامح محددة. لكنها اتسعت ونقلت ثقافة التظاهر من القاهرة للمحافظات.. وبدأت تتشكل حركات تحمل اسم التغيير فى الجامعات والنقابات. ونقلت الجدل إلى المواطنين، الذين كانت أغلبيتهم مشغولة بالدفاع عن وجودهم فى مواجهة آثار سياسات الحكومة بكل فوضاها وعشوائيتها.
تم تعديل المادة 76 من الدستور والتلاعب فى الصياغة لإغلاق الباب أمام أى منافسة للحزب الوطنى، وجاء وقت الاستفتاء على المادة فى يونيو وتحول الاستفتاء إلى تمثيلية. ولم يدرك مبارك أو يتساءل عما كان يفعله الذين رباهم وساندهم طوال ربع قرن. وعجز النظام، حكومة ووزراء وأجهزة أمن وحزبا عمره ثلاثون عاما، عن تنظيم استفتاء على مادة دستورية بشكل لائق. واضطر للاستعانة بالبلطجية والمسجلين خطر ليواجه معارضة سلمية اعترف نفسه بأنها قليلة العدد، وأفرادها لا يملكون غير الكلمات، والشعارات، وحركات معارضة لا تطمع فى الحكم، ولا تنافس. فشلت الصحف الحكومية والفضائيات فى تسويق أفكار مبارك أو تقديمه بصورة جديدة. كان مبارك يمارس عرضه الأخير، فى غياب أى قوة منظمة حزبيا أو سياسيا، باستثناء جماعة الإخوان. التى كان يقدمها للغرب على أنها فزاعة يمكن فى حال وصولها للحكم أن تهدد مصالح الغرب والولايات المتحدة. وكانت الجماعة عبرت هذا وبدأت اتصالات مباشرة لطمأنة الغرب والأمريكان بشكل مباشر. كان مبارك يتحدث عن إصلاحات سياسية تدريجية وكأنه لم يكفه 25 عاما من التدرج. ووصل الأمر برئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف وهو فى زيارة للولايات المتحدة أن يعلن أمام المسؤولين الأمريكان أن الشعب المصرى غير مؤهل للديمقراطية. نظيف رئيس الوزراء المحسوب على الشباب والقادم من عالم المعلومات والإنترنت بدا بعد عامين بيروقراطيا غارقا فى الدفاع عن الحزب الوطنى وجزءا من تركيبة حائرة بين الحرس القديم والجديد، بينما مبارك يصر على الاستمرار.



◄ مبارك الفرعون الأخير .. الحلقة الأولى:كيف تصرف مبارك فى اليوم التالى للتنحى؟..طلب الاتصال بالنائب والمشير.. وانقبض من مشهد الأفراح فى الشوارع.. وتذكر شاوشيسكو وصدام وقال بلدنا مش كده

◄ مبارك "أحلام السلطة وكوابيس التنحى"..الحلقة الثانية:قال لأوباما: أنت لا تعرف وبعدها سأل نفسه:من يكون هذا الشعب ولماذا ثار ضدى؟..عندما سقط الإخوان اعتبره تحقيقا للنبوءة..وأصيب بأزمة بعد تأكده أنه متهم

◄ مبارك "أحلام السلطة وكوابيس التنحى"..الحلقة الثالثة.. رحلة أجداد مبارك من البحيرة إلى المنوفية.. قصة صاحب الكرامات..عبد العزيز باشا فهمى توسط لتوظيف والده حاجبا.. وأدخل مبارك الكلية الحربية

◄ مبارك "أحلام السلطة وكوابيس التنحى"..الحلقة الرابعة..قصة مبارك وعبد الناصر..دخل مبارك الكلية الحربية عام 1947 بوساطة المحامى الشهير عبدالعزيز باشا فهمى وبعد عامين دخل الطيران

◄ مبارك "أحلام السلطة وكوابيس التنحى"..الحلقة الخامسة..مبارك وسوزان الطريق للسلطة..ليلى والدة سوزان البريطانية رفضت خطبة حسنى لابنتها ثلاث مرات بسبب فرق السن والمستوى الاجتماعى
للاطلاع على المزيد من حلقات مبارك "أحلام السلطة وكوابيس التنحى" أضغط هنا