يعلم الله أننى أكتب هذه السطور والدموع تنهمر من عينى، خاصة بعد مذبحة الوادى الجديد الأخيرة، فلن أنسى أبدا ذلك اليوم الحزين، حينما كنت على موعد مع صديقتى الصحفية لكنها اتصلت تعتذر لأنها ستذهب للمنوفية لمقابلة أسر 21 شهيدًا بقرية واحدة، لكننى استأذنت من عملى وأبلغت أسرتى بأننى سأذهب صحبة صديقتى لتعزية أهالى الشهداء فى مجزرة رفح، ورغم اعتراض الأسرة ومخاوفها تعرضنا لمكروه خاصة أن الانفلات الأمنى خلال تلك الفترة التى كان يحكم مصر الرئيس الإخوانى المعزول محمد مرسى صممت مصاحبة صديقتى حتى وصلنا لقرية "فيشا الكبرى" بمركز منوف بالمنوفية، ورأيت أعدادًا كبيرة من الرجال يقاومون الدموع حول منزل أحد ضحايا مذبحة رفح الثانية الشهيد محمد على ورفاقه الذين ستثأر مصر لهم من القتلة ولن تنساهم.
كان المنزل واحدًا من 21 بيتا بالمنوفية التى حظيت بنصيب الأسد من الشهداء فقدمت 21 شهيد وسط دعوات حارة من عيون التهبت بالبكاء والنحيب، وأخرى تطالب بالثأر من القتلة (الإخوان وحماس) الذين قتلوا جنودنا.
كانت الأم تتحدث كأنها تخاطب ابنها الشهيد ومشاعر الصدمة تمتزج لفجيعة فقد "ابنها العريس" الذى كان يستعد للزواج لكن يد الغدر لم تُمهله واغتالته بعدما أنهى خدمته العسكرية برفح وكانت هذه زيارته الأخيرة للحصول على شهادة أداء الخدمة العسكرية والأم تقول فى حالة ذهول : قلت لك بلاش تسافر يا محمد الدنيا قلق يا ابني، قال لي: خليها على الله يا أمى الأعمار بيد الله، وبعدين أنا قضيت سنتين فى رفح، خلاص مش هاموت غير وانا رايح اجيب الشهادة؟، وتصمت لحظة وتقول بلوعة: أنا كنت موصياك تجيب لى كفنى أقوم أكفنك أنا.
كانت أجواء الفجيعة تُخيم والدموع المكتومة تنهمر من عيون الأمهات والأقارب والجيران حتى خطيبته (سمر) التى كانت أول من أبلغ أسرته بالنبأ حكت لى ما حدث قائلة: كلمته قبل وفاته بيوم، وكان قاعد على مقهى بالعريش وقال لي: مش لاقيين عربية ترجعنا، بسبب حظر التجول الذى كان مفروضا وقتها، وهننتظر للصبح، فطلبت منه ياخد باله من نفسه لأن المكان المتواجد فيه خطر من أول الثورة، فقال لي: خليها على الله وتانى يوم اتصلت بيه لقيت صوت واحد غريب بيقول لي: حضرتك مين؟ فقلت له: أنا (سمر)، خطيبة (محمد)، فقال لى بصوت حزين: مش عارف أقول لك أيه البقاء لله (محمد) استشهد وأنهى الاتصال.
خيمت على المشهد مشاعر الحزن، ووجدتنى مع صديقتى الصحفية نبكى ونحن نرى الأم تنخرط فى نوبة بكاء حارة، وتحدث نفسها قائلة أنا مريضة بالسكر، مين هيعطينى حقنة الأنسولين بعدك يا محمد يا حتة من كبدي.
وقتها كنت أشاهد من الطابق العلوى الرجال يساعدون الأب على الوقوف، لتلقى العزاء ويقول: كان ابنى الكبير ودراعى اليمين، وكان شغال بإيده من يوم ما خلص الدبلوم علشان يخلص شقته، وعفشه خلصه النجار، وكان هيتجوز الشهر الجاي، والمعزون يقولون له: هو عريس عند ربه وخللى عندك إيمان، فهذا قضاء الله وقدره.
خرجنا من منزل أسرة محمد ووجدت صديقتى الصحفية تقول لي: مش قادرة أكمل وأشوف بيوت تاني، كلها هتبقى زى إللى شفناه، وأنا مش مستحملة خلاص وكان رأيى أن نعود قبل حلول الظلام فنحن بنات والطريق صعب وأسرتى تتصل بى باستمرار، ووالدتى تصرخ فى التليفون: أيه إللى خلاكى تروحى المنوفية.
أطيب خاطر والدتى وأؤكد لها أننا بخير والأهالى هنا يحموننا وربنا قبل الجميع معنا، لكن طبعا هذه العبارات لا تقنع والدتى خاصة أننى كنت زرت أهالى مذبحة رفح الأولى ولا أعرف السبب فى اهتمامى الكبير بهذه الأحداث رغم أن مهنتى لا علاقة لها بالصحافة أو الشهداء ولا أنتمى لأحزاب أو حركات لكن دوافعى كانت لأسباب وطنية وإنسانية، ولم أشعر بطعم أى متعة بالدنيا بعدما شاهدته بعينى وسمعته بأذنى من أسر شهداء مذابح رفح التى كنت أدون فى أجندة خاصة تفاصيلها على هيئة يوميات ووقائع حتى لا أنساها.
ظلت أسئلة لم نجد لها إجابات حول هوية المتسبب باغتيال جنودنا برفح وغيرها، لكن بعد سقوط نظام الإخوان كشفت الأجهزة السيادية أسماء منفذى المجزرة وهم ثلاثة أشخاص من حماس فالمجزرة الأولى برفح التى راح ضحيتها 16 جندى كشفت الأجهزة عن السبب الحقيقى لتنفيذها بعلم مرسى وجماعته وأسماء القتلة :أيمن نوفل " قيادى بكتائب القسام الذراع العسكرى لحركة حماس الإخوانية وهارب من سجن المرج خلال أحداث 25 يناير، ومحمد إبراهيم ابوشمالة الشهير بأبو خليل وهو قيادى بحركة حماس الإخوانية، ورائد العطار الشهير برأس الأفعى وهو مخطط ومنفذ عملية خطف الجندى الإسرائيلى جلعاد شاليط ونفذت حماس الجريمة لتكون ذريعة لمرسى لإزاحة قيادات الجيش لتمكين الجماعة من السيطرة على مصر.
وفى الجزء الثانى من المقال، سأواصل سرد التفاصيل لكن أحب التأكيد على أن الرئيس السيسى ووزير الدفاع الفريق أول صدقى صبحى وعدونا بالقصاص لدماء شهداء رفح والوادى الجديد، وأن ما يحدث بغزة من مواجهات بين (حماس) وإسرائيل لن يجعلنا ننسى دماء أبنائنا، وأن مقولة السيسى الشهيرة "مسافة السكة" ليست لمن قتلوا المصريين، بل لمن ساندوها، فهو أيضا القائل إن مصر لن تنسى من دعموها ووقفوا معها، ولا الذين أساءوا إليها، فليخرس بعض الإعلاميين ويتوقفوا عن المزايدة على مصر ودورها التاريخى فى مساندة القضية الفلسطينية، فمصر لا تتعامل مع حركة حماس، لكن مع الرئيس الفلسطينى والسلطة لأنها العنوان الصحيح للقضية، فحماس تحارب لأجل الإخوان وقطر وتركيا، وقادتها بفنادق الدوحة يسيئون لمصر وقيادتها وجيشها وما يمكننى قوله إن مصر لا ولم ولن تنسى دماء أبنائها وستعاقب القتلة مهما طال الزمن.
هبة المصرى تكتب: حماس.. بين مذابح رفح والوادى (1)
الأربعاء، 23 يوليو 2014 10:00 م
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة