كان قد وقف أمامى وأنا جالس تصعد منه حرارة الفحم الممسك به وكلانا سرق انتباهنا التليفزيون الضخم المعلق على أحد حوائط المقاهى بمدينة الإسكندرية.. فما كان يعرض من صور شد انتباه الحاضرين رغما عنهم.. خبر عاجل من غزة..استشهاد أسرة بالكامل بها طفلان جراء القصف الصهيونى على منطقة فلان فى الساعة الفلانية صباح اليوم الفلانى.. وقع الخبر على أذاننا ككلام محفوظ رتيب.. لم يحرك فينا شيئاَ بقدر ما عنفتنا صور الأشلاء من النوع الصغير..ذراع صغير..قدم صغيرة..وقد واجه ذلك رد فعل صغير مننا بطبيعة الحال..كل منا انصرف إلى ما كان يفعله..وبعد ما لممت مداركى أنا الآخر حتى وقعت عيناى على ذلك الشخص وقد رسمت على وجهه ابتسامة تحمل تقاسيم الموت وملامح الاغتراب..لم أستطع وقتها كبت فضولى فوجهت له سؤالى مباشرة..علام تبتسم ؟؟ لحظات مرت قبل أن أشعر بوصول سؤالى له..قال .. ما يحدث فى غزة لا يساوى ما يحدث لنا فى سوريا..ثم تركنى و ذهب ناحية إحدى الشيش يغير الفحم من فوقها.. فكرت قليلاَ فى جدوى مناقشه طرحه..و أخذت عيناى تتفحصه لا إرادياَ..هو شاب يحمل بعض الملامح الشامية التقليدية.. من شعر أقرب للبنى وعين لم تكن سوداء.. وكانت ملابسه ليست لشخص قد اهتم بها منذ فترة .. نصف ساعة وعاد لى فأشار لى بيده أن أنتبه وبدأ حديثه بسؤال.. هل تعلم أن فى سوريا الآن اقصر وأغلى وسيلة مواصلات فى العالم ؟؟-
استقبل منى جبين ممتعض فقال.. نعم .. عشرة أمتار بمائة ليرة..إن معاناتنا تعدت الموت و الموت تعدى القصف..و القصف تعدى الأرض..و الأرض تعدتنا .. سأحكى لك عن تلك الوسيلة من المواصلات و يمكنك أن تتخيل باقى أشكال الموت عندنا.. بعد أن سيطر الجيش النظامى على شمال حمص و مسجد خالد بن الوليد فى مطلع 2013 .. كنت أنا فى غربها تحت سيطرة الجيش الحر.. ولسبب ما متعلق بمجيئى مصر.. كان لزاماَ على الانتقال من منطقه الجيش الحر لمنطقه الجيش النظامى.. أو الانتقال من الجحيم لجهنم بأقل قدر من الحروق..كان أمرا عبثياَ..و لكنه ظهر منطقيا وسط ما نعيش فيه..واتخذت قرارى وخرجت فى اتجاه شارع السالمية .. و فى أحدى الشوارع المتفرعه منه..كان هناك جمع من الناس..وأخبرونى أن هذا الشارع أصبح جبانه (مقبرة) لأن هناك عدداَ من القناصة التابعين لبشار الأسد يتطلعون لرأس تمر ذلك الشارع..قالو لى أن أقف فى الطابور و أنتظر دورى لأمر الشارع..ودقائق ووجدتنى أقف أمام جندى من الجيش الحر و هو يسألني..بخمسين أم بمائه ؟ فقلت له ما هو الذى بخمسين أو بمائه ؟؟ فأشار لصندوقين صغيرين لونهما أسود..ففهمت ما قصده..قلت وما الفارق ؟؟ قال إن الأغلى هو الصندوق الحديدى المؤمن ضد قناصة بشار بالكامل..والأخر هو مهترئ قليلاَ..يمكن أن تمر منه رصاصة فى حالات قليلة .. فى نظره سريعة للشارع رأيت العديد من الصناديق تقطع الشارع عرضاَ بين الحين و الأخر و سمعت رصاصا يقسمه طولاَ فى إيقاع متزامن..لم أكن أملك فى الحقيقة رفاهية اختيار الصندوق المؤمن..فركبت صندوق البسطاء..لم أتخيل أنه سيتسع لجسدى تحت أى ظرف لكنه إتسع..ثم قفل عليا غطاءه..فكان السواد إلا من بعض الثقوب التى تخترقها الشمس.. سمعت الشخص فى الجهة المقابلة يطلب أن يقذف إليه الحبل..ثم تحرك الصندوق و أنا بداخله ببطء كسيارة بدون عجلات..أو كقارب بدون ماء فى صمت اخترقه بعض أصوات الرصاص..و أنا فى طريقى للضفة الأخرى..كل ما خطر فى بالى أنه أن أصبت برصاصه و مت داخل هذا الصندوق..ألا يخرجونى ويبخلوا عليا به..وأن يتركونى هكذا فى سكونى إلى الأبد..ومرت على رحلة عبور الطريق ثوانى فى ساعة يدى..أما فعلياَ لازلت أعبرها حتى الآن..لا أظن أن باقى القصة قد تهمك..إلا أنى قد حكيتها لخالد بن الوليد بينما كنت أمر على قبره المهدم..وأحكيها لكل من أقابله.. احكها عنى من فضلك.
