متجر صغير أسفل الكوبرى القديم.. يحوى معروضات متعددة غطاها الغبار.. يملكه رجل فى أواخر العقد السابع من العمر طغت على ملامحه الأحزان.. يجلس وسط معروضاته القديمة يتأملها بالساعات فى صمت، دون حراك.. يدور بعينيه مرة تلو الأخرى متفحصا ومتذكرا ما قصه أصحابها من أسباب واهية دفعتهم إلى بيعها بأرخص الأثمان، والتى تنوعت بين الجحود ونكران الجميل والخيانة والغدر بحجة البحث عن حب جديد وذكريات جيدة تعيد إلى البائعين شبابهم قبل فوات الأوان.
جاؤه أحدهم يبيع ذكرياته.. ألقى بها أمامه بمنتهى الاستهتار
سأله: أنت تاجر الذكريات؟
أجابه فى سخرية: وأنت بائعها؟
عاجله: وأنا الكسبان
التفت إليه صاحب المتجر ليرى وجهه قائلا: لكن شرط الشراء معرفة سبب البيع
رد دون تردد: وأنا موافق
إنها ذكرياتى أنا وزوجتى.. عمرها أكثر من 25 عاما.. بها مجموعة أغانى عاطفية أهديتها وأهدتنى إياها بمناسبة وبدون، وهذه صورنا وبعض الزهور وأوراق الأشجار الجافة وضعتها داخل قصة حبنا التى كتبتها لها أثناء دراستنا الجامعية.. وهذه صورنا يوم زفافنا، وهذه ألبومات وفيديوهات مع أبنائنا فى كل مرحلة عمرية منذ الولادة حتى التخرج والزواج.. ولى مسكن لو أردت شراءه فهو ملىء بالذكريات، كل طوبة وكل ركن فيه ينطق بذكرى، فهو ناتج غربتنا وكفاحنا معا حتى اكتمل وصار مفعما بالذكريات التى تشهد على سنوات الحب والشقاء .
اطمئن يا عزيزى فلدى الكثير والكثير من الذكريات.. المهم الثمن
نظر إليه بعين باكية وسأله فى أسى: ولماذا تبيعها الآن؟
رد عليه مبتسما: بصراحة أعجبت بزميلة لى فى العمل.. أهديتها معظم ذكرياتى مع زوجتى علها ترضى عنى وتقع فى غرامى كما أوقعت زوجتى من قبل، وهذا ما تبقى لدى من ذكريات، أردت أن أبيعها لأبدأ فى جمع ذكرياتى مع حبيبتى من جديد .
قام صاحب المتجر من مكانه وفتح خزانة النقود وهو يبكى قائلا : لقد بعت ذكرياتى من قبلك يا ولدى لغانية مقابل لحظات سعادة زائفة ظننت أنها ستدوم، وكانت النتيجة اننى خسرت بيتى وزوجتى وعشرة عمرى ومعها أولادى إلى الأبد، فأدركت أن الذكرى لا يبيعها سوى الأغبياء، فقررت أن أتاجر فى الذكريات اشتريها منهم وأعيش فيها علها تكون عوضا عن مافرطت فيه يوما من الأيام، فتمنحنى المزيد من الصبر، الذكرى يابنى هى وقود الحياة التى تعيننا على استكمال مسيرتنا، يرثها أبناؤنا من بعدنا، فإن كانت طيبة عاشوا بسيرتها وقصوها على أبنائهم وأحفادهم، وإذا بعناها لم يتذكرنا أحد، وجزاؤنا هو أن نعيش فى حرمان منها مطرودين من رحمة وبر أبنائنا وزوجاتنا نعيش فى مجتمع ليس فيه سوى الخائنين و الغادرين، أمامك المال يا مسكين، خذ ثمن ذكرياتك بنفسك ؟
وقف بائع الذكريات أمام خزانة النقود يفكر فى ثمن ذكريات العمر، و يسأل نفسه، هل هذه المرأة التى لا يعرفها سوى من شهور قليلة، والتى يحكى سيرتها القاصى والدانى تستحق أن يهديها ذكريات أكثر من ربع قرن مضى مقابل لحظات قليلة من السعادة الزائفة ؟، وهل الذكرى يمكن أن تهدى أو تعوض، أو تقدر بثمن ؟ وإذا ضاعت هل يمكن أن تعود ؟ شعر بضيق فى صدره، و أدرك أنه ببيعها يكون قد انضم إلى معشر الخائنين، وبدون تردد راح يلملم ما تبقى من ذكرياته، أحتضنها بقوة وبمنتهى الحرص خرج من متجر الذكريات مسرعا، عائدا إلى بيته ليكمل باقى حياته فى أحضان ذكريات العمر التى كان سيبيعها بأرخص ثمن.
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة