جمال الجمل

أزمة الإنسان المعاصر بين ثورة التطلعات والانكفاء على الذات

الثلاثاء، 15 يوليو 2014 07:18 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل سألت نفسك يوما: هل أنت قنفذ أم عصفور؟
إذا لم تكن قد فكرت من قبل فى إجابة على هذا السؤال، فقد آن الأوان لتفكر، لأنك بدونها لن تعرف من تكون، ولن تعرف لماذا تعيش، والأهم أنك لن تعرف كيف تعيش؟

هذه المقارنة الرمزية بين القنفذ والعصفور استهلكت أمسية كاملة مع صديقة أوروبية مهتمة بفنون الديجتال، وفى اليوم التالى أهدتنى فيلمين، وطلبت منى مشاهدتهما، واستكمال المناقشة بحضور مترجمة لنشر الحوار فى مجلة هولندية مهتمة بالفن المعاصر.

الفيلم الأول لمخرج ألمانى شاب اسمه أندريا شور، بعنوان "مرفق سيرة ذاتية"، وهو فيلم جيد بعنوان ردىء يتساءل عن معنى الوطن ويحذر من تحول الإنسان إلى C.V، وتدور الأحداث خلال رحلة من ألمانيا إلى رومانيا تقوم بها جريتا، لكن الفتاة الفوضوية تتخلف عن موعد الطائرة، فيعرض عليها زميلها المنظم"ميشا" أن يصطحبها بسيارته المجهزة، لأنه يرتب للقيام برحلة تجوال فى أوروبا بعد أن هجرته حبيبته، ونكتشف أن الرحلة هى نفسها الحياة كما يراها كل منهما، فالفتاة جريتا عصفور طليق، تحمل كاميرا فيديو تصور بها ما يعجبها من ذكريات، وتضع المشاهد (الذكريات) على جهاز الكمبيوتر المحمول الذى لا يفارقها وكأنه ذاكرتها الخاصة وجزء من كيانها، وتؤمن بالعمل التطوعى وتقدم سيرتها الذاتية لأى وظيفة تحبها فى أى مكان فى العالم، وهى فى طريقها الآن لوظيفة جديدة فى مدينة سيبيو الرومانية، لكن ميشا يبدو على النقيض أنه "قنفذ" يعيش داخل سيارته المجهزة ويخطط لكل شىء، وفى مشهد دال يتوقف بسيارته عن حدود رومانيا بعد أن ينظر فى الخريطة ويقول لجريتا إن الطريق خطأ، وعليه أن يعود ليسأل على الطريق الصحيح، فتصر جريتا أن تمضى فى الطريق لأنه يعجبها، ولأنها مصممة على عبور "الحدود"، وتقود السيارة بنفسها محاولة عبور حفرة ممتلئة بالماء، لكن السيارة تغرس فى الوحل، ويدور الإطار بلا حركة، ويحاول ميشا بيأس، وهو يثرثر غاضبا أن فكرة الاستمرار فى الطريق كانت خطأ ولابد من "ونش" لسحب السيارة، فتتركه جريتا دقائق وتعود مع قائد جرار زراعى من الريف الرومانى فيسحب السيارة وتكمل طريقها، وبعد تنويعات ووجهات نظر فى الحياة يفترق ميشا عن جريتا ويتركها فى الطريق بعد أن ترك سيارته مفتوحة فتسبب فى سرقة كمبيوتر جريتا الذى يعتبر جزءا من هويتها، لكنهما يبحثان عن بعضهما ويجلسان على حافة تل فى نهاية الفيلم ويسألها ميشا عن مفهومها للوطن فتقول "أنا"، بينما يقول ميشا إن الوطن هو "الآخرون"، جريتا التى فقدت جزءا من ذاتها ترى أن الوطن حيث تكون وحيث تتحقق ذاتها من دون جغرافية ولا حدود ولا أسوار، بينما يرى ميشا أن الوطن حيث توجد فرص العمل و"نظام" للحياة، ويسألها عن خططها فى الحياة، فتقول ليس عندى خطة، ولأول مرة يقول ميشا المنظم أيضا وأنا أيضا ليس لدى خطط، ثم يتحدث عن حلمه بزيارة جبل آرارات فى أرمينيا حيث يقال إن سفينة نوح رست هناك بعد الطوفان العظيم، ويعتبر أن الطوفان هو بداية الحضارة الجديدة، موحيا وهو يجلس على حافة التل وأمامه الهاوية من أسفل والأفق فى السماء، أن كل الاحتمالات أصبحت مفتوحة، بعد أن اجتاحه طوفانه الخاص كما اجتاح جريتا التى فقدت فى الرحلة وظيفتها، بل وجانبا مهما من ذاتها بعد أن سرق الآخرون –بالمصادفة العمياء- خزانة ذكرياتها المتمثلة فى "لاب توب" ليختلط التصنيف فى النهاية فلا نعرف ما إذا كانت جريتا طوال الوقت عصفورا طليقا بحق؟ أم أنها كانت مجرد "قنفذ" يتخفى فى صورة عصفور؟.

أما الفيلم الثانى فهو فرنسى بعنوان "القنفذ" أرادت مخرجته مغربية الأصل منى عشاش أن تفضح فيه خداع المظاهر واختفاء البشر حول أقنعة مستعارة، فاقتحمت متحف الحياة لترسم لنا بشاعة تحنيط الإنسان المعاصر من خلال اعتمادها على رواية فرنسية ذائعة الصيت بعنوان "أناقة القنفذ" لأستاذة الفلسفة مغربية الأصل أيضا موريل باربيرى.

"لا أريد أن أكون سمكة ذهبية فى حوض زجاجى"، هكذا تقول الصبية بالوما للكاميرا وهى تسجل يومياتها بعد أن قررت الانتحار وحرق شقة أسرتها عندما تبلغ 12 سنة.
بالوما التى تجاوزت الحادية عشرة تودع الآن طفولتها المرفهة، وتودع بعد 156 يوما حياتها المحنطة بعد أن سأمت من دور "القنفذ" الذى يختبئ داخل أشواكه بحثا عن حماية تعزله بالضرورة عمن حوله، لذا نراها دوما خلف الكاميرا وكأنها تستخدمها كحاجز يفصلها عن حياة لا تحبها ولا تعرف لها معنى، فوالدها الدبلوماسى اليسارى منصرف إلى أعماله ونجاحاته التى تجعل منه شخصية هامشية فى حياتها وفى الفيلم أيضا، وأمها موزعة بين الخمر وأدوية الاكتئاب والوحدة التى تدفعها لمخاطبة الزهور الاصطناعية، فى ملمح يذكرنا ببطل قصة تشيكوف الشهيرة "لمن أشكو أحزانى".

والفيلم كما الرواية نقد لاذع للحياة البرجوازية الفارغة من المعنى، حيث نتعرف فى مقابل شخصية بالوما على الأرملة الفقيرة رينيه (54) عاما حارسة العمارة رقم 7 فى شارع جرينيل فى باريس، والتى يبدو مظهرا مهملا وقاسيا، لكنه شعلة من الذكاء والنشاط، فهى "القنفذ" الذى يرى الناس أشواكه، ولا يلتفتون إليها إلا باعتبارها مجرد "آلة عمل" كبوابة للعمارة، وعندما تتعرف عليها بالوما تكتشف أنها مثقفة تعشق السينما والموسيقى والقراءة ومغرمة بروايات تولستوى، وأفلام المخرج اليابانى ياسوجيرو أوزو، الذى سكن نفس العمارة لفترة، وكان الوحيد الذى ناقشها بعمق وتعامل معها من الداخل وليس من الخارج، ربما لأنه كان يعانى من أزمة إنسانية بعد أن هجرته ابنته، وفى لقائهما الأول استخدمت رينيه عبارة لتولستوى تقول إن "حياة العائلات السعيدة متشابهة"، وأضاف أوزى "لهذا يعيش التعساء حياة متفردة"، وهكذا يرصد الفيلم لعبة الأقنعة والمسافات التى يستخدمها الجميع للحماية من أذى متوقع حال التعامل مع الآخرين، وهكذا تبدو مقولة سارتر الشهير "الجحيم هو الآخرون".

ونتيجة تأثيرات أوزى يبدأ "القنفذ" فى التجمل وتغير رينيه تسريحة شعرها وترتدى فستانا جديدا أهداه لها لتحتفل معه بعيد ميلاده فى مطعم يابانى، وترصد بالوما بكاميرتها التغيرات التى طرأت على رينيه، وتكتشف الطفلة أن الكاميرا التى كانت "حاجز اختباء" صارت "وسيلة للمعرفة"، بل و"جسر تواصل"، لذا تخبر عائلتها ذات صباح على مائدة الفطار أنها عرفت ماذا تريد أن تكون عندما تكبر "أريد أن أكون بوابة مثل رينيه".
ليس مهما الدهشة التى فجرتها عبارة بالوما للعائلة، لأن الدهشة قد تصرفنا عن تنازل الطفلة عن فكرة الانتحار، إنها تفكر فى المستقبل، لقد صار لها غد يمتد حتى تكبر، وقد اكتشفت الطفلة ذلك عندما سمعت أمها تلقى تحية الصباح باحترام (صباح الخير يا مدام) على سيدة ترتدى فستانا أنيقا وتخرج بصحبة المخرج المعروف ولم تكن هذه السيدة سوى رينيه البوابة التى يهملها الجميع، لقد تعاملت الأم مع الفستان وليس مع الإنسانة، فهل يكفى أن يرتدى القنفذ جناحين لكى نسميه عصفورا؟.. ربما، فهذا ما يحدث عادة.

# لا أريد أن أكون سمكة ذهبية فى حوض زجاجى.
(المراهقة بالوما)








مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة