بعد زلزال رفع الدعم، وما تبعه من تداعيات رفع الأسعار، حسناً فعل الرئيس السيسى بخروجه على الأمة، بكلمة بمناسبة انتصار العاشر من رمضان "نصر أكتوبر". وقد كان خروجه ضرورياً ولازماً وحيوياً لأن الزلزال الذى ضرب الدعم، يتعارض فى تداعياته مع ما وعد به الشعب، وما وقر فى قلوب الجماهير من انحياز الرئيس للطبقات الفقيرة، ومن هنا كانت الصدمة، صدمة المفارقة بين الواقع المعاش فى ظل رفع الدعم، وما كان مأمولاً من رفع المعاناة ومكابدة أسباب الحياة.
وقد ربط الرئيس بين فترتين من أصعب وأحلك اللحظات التى مرت بها مصر فى عصرها الحديث، الأولى كانت إبان هزيمة يونيه 1967 م، تلك الهزيمة التى أتت على الجيش المصرى وأسلحته، وقد جاءت تلك الهزيمة فى فترة كانت الأمال فيها عريضة، والتطلعات عالية، والطموح لا حدود له. فإذا بواقع الهزيمة يحول تلك الأمال والتطلعات والطموحات إلى حطام وكوابيس ومرارة وألم وانكسار، وأصبحت الأمة الوليدة بلا جيش يحميها، فى ظل وجود قوى دولية متربصة لا تريد بها خيراً. ولما كانت هذه الأمة أمة لها تاريخ سرعان ما تعالت فوق الجراح، ونادت فى زعيمها الذى أعلن تنحيه بأنها ستحارب.
أمة نازفة لا تزال دماء شهدائها ندية على الرمال لم تجف بعد تصرخ فى قادتها رافضة الهزيمة والاستسلام، تضرب صرخاتها جنبات الأرض، وتشق عنان السماء، سنحارب. أمة تنهض من تحت رماد المعارك التى طحنت جيشها على رمال الصحراء تطارد أفراده طائرات العدو، وتحصدهم حصداً، لتقول: لا، هذه الأمة ربطت على بطنها سبع سنوات عجاف، تحول اقتصادها إلى اقتصاد حرب لإعادة بناء الجيش، درع الأمة وسيفها الذى انكسر. ومعنى اقتصاد الحرب لمن لا يعرف من الأجيال الشابة، تحويل اقتصاد الدولة ومؤسساتها وقدراتها ومواردها المادية والبشرية وقوانينها لتوفير حاجات حرب طويلة الأمد وتحقيق أهدافها، وهذا يتطلب حالة من حالات التقشف الاقتصادى غير المسبوق، وما يتبعه من معاناة قاسية، وظروف غاية فى التقشف، والألم والمرارة. وليت الأمر اقتصر على مجرد تجهيز الجيش للحرب وإعادة بنائه، وإنما كان مطلوباً خوض حرب استنزاف للعدو بقصد النيل منه، وجعل بقاءه على الأرض المصرية مؤلماً ومكلفاً.
وبطبيعة الحال فإن حرب استنزاف العدو هى استنزاف لنا كذلك، إلا أن كسر حاجز الخوف فى نفوس جنودنا من العدو الذى لا يقهر كان أمراً لا مفر منه. ومرت السنوات السبع ثقيلة متكاسلة كئيبة، زاد من ثقلها وفاة الزعيم/ الحلم والأمل قبل أن تتحرر الأرض. كان الهاجس المخيف الذى يطارد المصريين فى النوم واليقظة هو الخوف من الهزيمة مرة أخرى.
وقد واجه الرئيس السادات رحمه الله ثلاثة حواجز تحول بينه وبين اتخاذ قرار الحرب، الحاجز الأول: حاجز الخوف، والحاجز المائى الذى قيل عنه بأنه سيحول الجنود المصريين إلى شواء يجذب أسماك البحرين إلى التهامه، والحاجز الثالث: خط بارليف الذى قيل بأنه يحتاج إلى قنبلة ذرية لفتح ثغرة فيه يعبر من خلالها المصريون. وكان الخيار بين الوجود والعدم. وتحقق للشعب ما أراد. هنا، فى هذا العبور كانت المسافة شاسعة بين الواقع والمأمول، فالواقع كان مريراً، والمأمول كان مستحيلاً، والرهان كان على الشعب وإرادته، فعبر الشعب تلك المسافة بين الواقع المرير والمأمول المستحيل.
فهل للشعب المصرى أن يفعلها مرة أخرى؟ لقد أشار الرئيس السيسى فى كلمته بأن هناك حرباً تخوضها مصر اليوم وغدا، هى معركة البناء، تعيش مصر ذات التحديات التى عاشتها فى أعقاب النكسة، تكون أو لا تكون. وأنه اتخذ قرار تحريك الأسعار أو رفعها لا كرئيس لمصر، ولكن كمواطن مصرى وطنى، لا تحكمه اعتبارات الشعبية، أو الموائمات السياسية، وإنما تحكمه اعتبارات الوطنية، والخوف على الوطن. ومن يتصور أن الأمر ينطوى على مبالغات من جانب الرئيس قد تغافل عن حديث الأرقام، والأرقام كما يقال لا تكذب. فمصر واقعة داخل دائرة الفقر، ومثلها فى ذلك كمثل الموظف الذى يمد يده إلى زملائه لتغطية نفقاته الشهرية، وفى نهاية الشهر يقوم بتوزيع مرتبه سداداً لمديونياته، فإذا زادت النفقات عجز الراتب عن الوفاء بالمديونيات، وضاقت الدائرة عليه فلا يستطيع منها فكاكاً، ولا من وطأتها انعتاقاً، حتى يختنق ويموت فعلاً أو حكماً. تلك هى المعضلة. وليس إلى خروج من سبيل سوى اختراق الدائرة وكسر طوقها، ولا يكون ذلك إلا بالتخلص من النفقات التى لا لزوم لها، بل وبعض النفقات التى يمكن التنازل عنها، والتضحية ببعض الضرورات إذا لزم الأمر.
وأنا أتصور أن الشعب الذى عبر العبور الأول كفيل بأن يفعلها ثانية، ويعبر العبور الثانى، بنفس ظروفه وملابساته وتحدياته وكلفته. إلا أن هناك فارقاً جوهرياً بين العبور الأول والعبور الثانى، يتمثل فى أن العبور الأول تحمل كلفته الجميع على نحو عادل. وهذا يقتضى أن يكون العبور الثانى بذات الاشتراطات التى صاحبت العبور الأول. وأن تبحث الحكومة فى آلية اقتصادية تحول بين الأغنياء وبين التهام ما تبقى من الدعم من ناحية، وأن تفرض الضرائب التصاعدية مع تحصيل ما تم التهرب من دفعه منها، بعد فتح ملفات التهرب الضريبى من ناحية أخرى. ولا تركن الحكومة إلى تدخل الجيش فى الأزمة بتوفير وسائل المواصلات أو السلع، وإنما تسعى لتفعيل دور الدولة كمنافس حقيقى ومؤثر فى مجريات السوق على نحو يعيد التوازن إليه كإنشاء شركات للنقل الجماعى بديلاً عن النظام العشوائى السائد الآن. وأن تصدر التشريعات اللازمة للحيلولة دون انتشار الفساد ممن يجيدون الصيد فى الماء العكر.
حسن زايد يكتب: العبور الثانى والاشتراطات المطلوبة
الجمعة، 11 يوليو 2014 12:00 م
صورة أرشيفية