قوى الحجة، سريع البديهة طفحت كتب التاريخ والسير بأخبار مواقفه مع خصومه فى الرأى والعقيدة..قال الإمام مالك عن هذا الرجل أنه لو زعم لك أن التراب الذى بين يديك دهب لما وسعك إلا أن تذعن لحجته، وأن تسلم لدعواه..فكيف إذا كان يناضل عن الحق ويجادل من أجله ويدافع عن دين الله ويجادل عن شرعه بما حباه الله من منطق فذ..كان تاجرا أمينا سمع أن أحد أعيان وأشراف الكوفة أضله الله، يزعم للناس أن عثمان بن عفان كان يهوديا فى أصله، وأنه ظل على يهوديته بعد الإسلام..فذهب إليه وقال..لقد جئتك خاطبا ابنتك، فلأنه لأحد أصحابى..فقال الرجل لصاحب هذه الحلقة أهلا بك ومرحبا..إن مثلك لا ترد له حاجة..ولكن من الخاطب...؟ قفال.. رجل موسوم أى معروف بين قومه بالشرف والغنى.. سخى اليد مبسوط الكف، حافظ لكتاب الله، كثير البكاء من خشية الله... فقال الرجل باندهاش وتعجب أن ما ذكرته من صفات الخاطب يجعله كفئا لبنت أمير المؤمنين. فقال صاحبنا..غير أن فيه خصلة لابد أن تقف عليها..قال والد الفتاة.. وما هى..؟ قال إنه يهودى... فانتفض الرجل وقال.. يهودى...؟ أتريد منى أن أزوج ابنتى من يهودى يارجل..؟ والله لا أزوجها منه ولو جمع خصال الأولين والآخرين...فقال له صاحبنا.. تأبى أن تزوج ابنتك من يهودى وتنكر ذلك أشد الإنكار... ثم تزعم للناس أن رسول الله عليه الصلاة والسلام زوج ابنتيه كلتيهما من يهودى....فارتعش الرجل وقال استغفر الله من قول سوء قلته، وأتوب إليه من فرية افتريتها..وكان الرجل الذى نتحدث عنه بارعا فى ردوده حريفا فى تفنيده وسديدا فى رأيه سأله أحدهم..
أخبرنى عن رجل عرف الله بقلبه وعلم أنه واحد لاشريك له وعرفه بصفاته وأنه ليس كمثله شىء.. ثم مات ولم يعلن الإيمان بلسانه.. أفيموت مؤمنا أم كافرا..؟.
قال صاحبنا..يموت كافرا ويكون من أهل النار إذا لم يصرح بلسانه عما عرفه بجنانه أى بقلبه..ما لم يمنعه من التصريح باللسان مانع..
قال الرجل..كيف لا يكون مؤمنا وقد عرف الله حق معرفته..؟
قال صاحبنا..إن كنت تؤمن بالقرآن وتجعله حجه كلمتك به.. وإن كنت لا تؤمن بالقرآن ولا تراه حجة..كلمتك بما نكلم به من خالف الإسلام.
قال الرجل.. بل أؤمن بالقرآن وأجعله حجة.
قال صاحبنا.إن الله تبارك وتعالى جعل الإيمان بجارحتين اثنين بالقلب واللسان.لا بواحده منهما.
قال تعالى.
(وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين.....
فأثابهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين...)
ويكمل صاحبنا..أنهم عرفوا الحق بقلوبهم، ونطقوا به بلسانهم، فأدخلهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الأنهار..
وقال تعالى.(قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم..)..فأمرهم بالقول ولم يكتف بالمعرفه والعلم..
وأخذ صاحبنا يمطر بالأدلة من الكتاب والسنة وقال أيضا قال عليه الصلاه والسلام..(قولوا.لا إله إلا الله تفلحوا.) فلم يجعل الفلاح بالمعرفة..وإنما ضم إليها القول.
وقال عليه الصلاة والسلام (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله) فلم يقل يخرج من النار من عرف الله. ولو كان القول لا يحتاج إليه، ويكتفى بالمعرفه من دونه لكان إبليس مؤمنا...لأنه عارف بربه، فهو يعرف أنه هو الذى خلقه وهو الذى يميته وهو الذى يبعثه.. قال تعالى على لسانه أى إبليس. (خلقتنى من نار وخلقته من طين).. وقال (رب فانظرنى..إلى يوم يبعثون.)..ثم أكمل صاحبنا وقال للرجل لو كان ما تزعمه صحيحا لكان كثير من الكفار مؤمنين بمعرفتهم لربهم مع إنكارهم له بلسانهم.. قال تعالى (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ..)
فلم يجعلهم مؤمنين باسيقانهم وإنما عدهم كافرين لجحود ألسنتهم.. ومضى صاحبنا يتدفق مرة بالقرآن ومرة بالحديث حتى بدا الانبهار والخذلان على وجه الرجل حتى انسل متخفيا ثم مضى ولم يعود..
وأختم معكم حتى لا أطيل عليكم بهذه القصة لصاحبنا مع جماعة من الملحدين الذين ينكرون وجود الخالق.
قال لهم ماذا تقولون فى سفينة مشحونة بالأثقال..مملؤة بالأمتعة والأحمال.. وقد أحاطت بها هوة أو حفرة عميقة فى البحر أمواج متلاطمة وعصفت بها الرياح العاتية...غير أنها ظلت تجرى هادئة فى طريقها المرسوم مطمئنة إلى غايتها من غير اضطراب ولا خلل وليس على ظهرها ملاح أو قبطان يحكم سيرها..أفيصبح ذلك فى الفكر...؟ فقالوا له لااا. إن هذا شىء لا يقبله العقل ولا يجيزه الوهم أيها الرجل..
فقال لهم صاحبنا.. ياسبحان الله..تنكرون أن تجرى سفينة فى البحر جريا محكما من غير أن يكون لها ربان يتعهدها..وتقرون قيام هذا الكون ببحاره وأفلاكه وطيره السابح وحيوانه السارح من غير صانع يحكم صنعته ومدبر يحسن تدبيره...؟ تبا لكم ولما تأفكون..عزيزى القارىء إن لصاحبنا مواقف كثيرة وعرف أنه صلى الفجر بوضوء العشاء نحوا من أربعين عاما، وأنه ختم القرآن فى الموضع الذى توفى فيه آلاف المرات..،وكان إذا قرأ سورة الزلزلة اقشعر جلده ووجل قلبه وأخذ لحيته بيده وطفق يقول..
يامن يجزى بمثقال ذرة خير خيرا
ويامن يجزى بمثقال ذرة شر شرا
أجر عبدك النعمان من النار
وباعد بينه وبين ما يقربه منها.وأدخله فى واسع رحمتك يا أرحم الراحمين..عزيزى القارىء لعلك عرفت من هو صاحبنا صاحب الحلقة من هذه السلسله.إنه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان.
