لا أدرى إلى أين ذهب، لكننى أسمع صوته، أكاد أرى غمزة عينه الحزينة، وطريقته فى الإشاحة بوجهه ويده، ونبرته التى تتغير عندما يتحمس أحيانا للنقاش فى أمر ما. أين ذهب ذلك الولد العبيط المبلل بالخجل والمنقوع فى ماء الطيبة؟ ألم تكن بيننا مواعيد أزلية متكررة، كلانا يعرف أنها لن تتم قريبا، وربما لن تتم أبدا؟ هل ضج من غيابى؟ ألم يعرف أننى مت منذ سنوات طويلة؟ كيف وقد قابلنى فى موتى مرات، وعاتبنى بطريقته البسيطة: يا أخى ما ترجع بأه، أنت عامل إيه صحيح؟ عايزين نشوفك كده.. أنت مش عاوز تكتب؟ مش قلت لى كام مرة إنك هتكتب؟.. أنا مستنيك. يبقى صديقى الكادح مكانه تحت الشمس اللافحة، وأختفى أنا فى عالم الموتى، يطالعنى اسمه على الورق كلما نظرت نحو دنياى، وأقرأه بنفس الطريقة التى قرأته بها أول مرة، وأضحك من نفسى عندما أتذكر أننى ظللت أتعامل معه لشهور طويلة كمجرد اسم على ورقة، وأسأل صديقى الأديب الكبير: من يكون هذا «الولد» الذى جئت به لينافس الكبار فى مبارزات لا يقدر عليها، ويزاحم فرسان التحرير الثقافى فى ساحات لا يعرف خريطتها؟ لم تكن الإجابات قادرة على تحويل الفتى الريفى من ورقة إلى إنسان!
وفى إحدى الدورات الطبيعية للأرض، وجدت نفسى فى مكان بعيد وسط ناس لا أعرف الكثيرين منهم، هناك فى بيت من «بيوت الخدمة» التى تتجرع رحيق الصحفيين، فوجئت بالزميل الورقة يدخل مكتبى متأبطا حقيبة جلدية سوداء، ما لبث أن فتحها، وأخرج منها بعض الأوراق، أخذ يرتبها بيده، ويدق حوافها بشكل رأسى على سطح المكتب، وهو يتلفت بحثا عن «دباسة».
سألته: ما هذا؟
قال: موضوع لصفحة الثقافة.
قلت فى سرى: تانى؟.. ألا يهمد تجار الشنطة هؤلاء؟
ثمة هاجس منعنى من النظر إليه، ربما لم أرتح لقامته الرياضية الفارعة، ووسامته الريفية الخشنة، وسحنته الأقرب إلى العبوس منها إلى البشاشة، وربما لم أكن أرغب فى تطوير التعامل معه إلى ما هو أكثر من المهنة.. الورقة تغنينى عن الإنسان.
مع الوقت بدأت أورط فى الاعتياد على طريقته، وصارت عباراته القليلة التى كان يعلق بها على الأشياء والأحداث والمواقف، تربكنى تماما، وصرت أنتظره، وأشعر بالافتقاد عندما يتأخر فى الحضور، وذات يوم واجهت نفسى بالسؤال عن سر هذه الحالة الغريبة، فوجدتنى ضحلا ومنغلقا ومعقدا أمام بساطته المدهشة، اكتشفت فى تصرفاته فلسفة خفية، تحولت مع الوقت إلى اتفاق نهائى مع العالم، كما لو كان يعرف مصيره بشكل مسبق، وكما لو كان يعرف أن شيئا لن يتغير للأفضل، الأسوأ يزحف بجيوش لا أحد يستطيع مواجهتها، وكلنا ضائعون فى العبث مثل أبطال كافكا، ولذلك ارتضى أن تكون حياته مجرد دور مرسوم بشكل قدرى لا فكاك منه، وما عليه إلا أن يقوم بدوره بمنتهى الصدق مغمضا عينه عن النتائج.
منذ ذلك الحين دخلت قفص المأساة، وتطورت صداقتى معه إلى ما يشبه جملة اعتذار طويلة عن جهلى وحمقى، ونظرتى القاصرة للناس.
صرت بعد هذا الدرس أكثر حرصا على معرفة الأصدقاء من دون أن أطبق عليهم أحكامى المسبقة، لكن هذا كله لم يدم، فقد استيقظت ذات مساء فوجدت نفسى ميتا، كانت الكلاب تملأ شوارع المدينة، والكلاب كما يقول مظفر النواب «سلاطين الليل»، لم يكن هناك بشر، وثمة مسافة غامضة تفصلنى عن الأرض وتجعلنى معلقا فى فراغ شفاف بلا جاذبية، حيث يمكننى أن أراقب كل شىء من دون أن أشارك فى أى شىء، بالضبط مثل باتريك سويزى فى فيلم «الشبح». انفرط عقد الجيل، وتعفنت آلهة العجوة، وتلون الأصدقاء إلا قليلا، كان الوجع يفرض شروطه على الجميع، فمنهم من كان يغرق فى مخدر المرحلة، ومنهم من كان يصرخ، ومنهم من كان يستعجل موته بحثا عن حياة أفلتت، ومنهم من كان يمضغ آلامه كالأفيون لينسى موته ويواصل الابتسام ببلاهة مصطنعة، وكان صديقى الورقة من هؤلاء، لم يكن لديه ما يكفى لإطعام عصافير البهجة، لكنه كان يصفر لهم لحنه من الصباح إلى المساء، كبديل معنوى عن الغذاء. عندما هاتفته اضطراريا ذات ليلة، شعرت ببرودة الوحدة تسرى فى جسدى، كان متعبا ومريضا ووحيدا، ومع ذلك لم يشك، ظل يسمعنى باهتمام، وعندما استشعر ألمى حرضنى على الأمل والعمل، وطلب منى أن أرى فى الأفق غدا قادما؟ وبذل مجهودا لإقناعى أن أصدق أشياء لا أراها؟، وأصبر على البلاء، كأن العالم لا يقصد الإيذاء، ثم بكى!
لم أسأله: لماذا؟، ولم يقل شيئا، فقط لأنه فى الصباح غير عاداته، ولم يعد يأبه بالمواعيد، ولم يعد يأتينى حاملا أوراقه، وتعليقاته العادية، ولم يهتم بتلك الابتسامة المصطنعة التى يدارى بها أوجاعه الوفية ببساطة، لأنه فى ذلك الصباح.. مااااات.
مرت سنوات على ذلك الصباح القاسى، وما زلت أنتظره، فى كل الأماكن التى أعمل بها، فى رنة الهاتف ليلا، فى غربة الريفى عندما تقهره القاهرة، وفى الأحلام التى لا تتحقق. لم أصدق أبدا أن هذا الولد يمكن أن يموت. هل يموت الولد الأبدى الذى دعانى مرارا للعودة من الموت، أظنه يعرف كيف يتحايل على موته، ويعرف كيف يهزم الهزائم، كما كان يعرف متى يغضب ومتى يسامح؟.. أظنه سيراوغ الموت قليلا ثم يعود، لذلك سأنتظره لأبشره بأننى عدت، سأنتظره ليحكى لى عن رحلته، ربما أعاتبه على غيابه الغامض كما عاتبنى من قبل، لكن حتى يعود لا أحب أن أخمن أين يكون؟ حتى لا أخطئ فى تقديره ثانية. فقط سأردد ما قاله أراجون عن بابلو نيرودا عندما اختفى فجأة من شوارع تشيلى: من يدرى أين بابلو؟.. أنا لا أدرى، لكننى أسمع غناءه!
- أن تموت محبوبا خير لك من أن تعيش مكروها.
«من وصايا نادم عاش مكروها».