رواية "طغراء" للكاتبة شرين هنائى، كتابة شيقة تعرض لتطور شخصية المستبد من خلال تتبع سيرة "صلاح الدولة النجمى" المملوك الأرمينى الغريب فى نشأته وفى تعدد مصائره، والذى يخطط للسيطرة على العالم، كان فى استبداده ووحشيته يحمل أسطورته الخاصة، ويعبر بها الحقب المتلاحقة، يحملها على ظهره فى صورة وشم لجبل مقلوب وكتابة بخط الطغراء، وفى جنبه يعلق سيفا دمشقيا ممتلأ بروحه، وعن طريق الكلمات التى أدرك قيمتها ودورها أشعل الحرب ولم يطفئها.. وهناك أيضا "خالد تحية" حفيد صلاح الدولة الذى تم استغلاله وتشويهه، كما توجد ثورة 25 يناير وجيل من الحلم والانكسارات، كل ذلك فى "طغراء" التى تسيطر كعنقاء ملتوية على مقدرات الخلق.
وعندما تحدثت "شرين هنائى" عن روايتها المميزة، قالت: "إن رواية "طغراء" تعتبر فانتازيا تاريخية، وسياسية معاصرة عن فلسفة الحاكم الذى لا يموت، والمحكوم الذى يموت حيا"، لكننى بعد قراءتها أدركت أن "طغراء" ليست رواية فنتازية ولا رواية أساطير ولا رواية رعب لكنها رواية واقعية جدا نسجتها يد تعرف قيمة الخيال.
ومع هذا يبدو للقارئ كم من الغرائبية والفنتازية التى لا يتخيل وجودها أو حتى وجود مؤشرات تدل عليها، وربما كان المنطلق الذى تحرك منه الخط الفنتازى الظاهر فى الرواية يأتى من كون شخصية "صلاح الدولة النجمى" عاشت تقريبا 500 عام، وربما لغرابة شخصيته التى تقتات على لحوم الأحياء ودمائهم مختلطا بسم العقارب، وربما لتعدد أسمائه وتنوعها، وربما للتواصل الخبيث بينه وبين قوى الظلام، وربما لادعائه الإلوهية، وربما لقدرته على بث الشقاء فى النفوس، وربما لمعرفته العميقة بطبيعة الشعوب التى عاش بها، وربما لامتداد سلطته وسيطرته على العالم السفلى الذى أصبح المكان الطبيعى لإدارة العالم، ولكن كلًا من هذه الخطوات السابقة تؤكد واقعية الرواية، كل الذى عليك أن تقارن شخصية صلاح الدولة النجمى بظلماته المتراكمة مع أى ديكتاتور عايشته أو قرأت عنه وسوف تجد التوافق الغريب.
الخوف والطمع هما من صَنَع الشعب الذى احتاجه صلاح الدولة النجمى ليبنى أسطورته، وحكماه فى رقاب العباد والبلاد، وبحرفية شديدة استطاعت شرين هنائى أن تبين هذين الوترين اللذين لعب عليهما صلاح الدولة النجمى بحياة الناس، فى كل مكان ذهب إليه لبث فساده وشره وجد الخوف والطمع يسيطران فيحولهما إلى جنديين تابعين له يسلطهما على الناس.
كما أن الرواية تأتى على المستوى الكتابى فى شكل دائرى حتى على مستوى الشخصيات، فصلاح الدولة النجمى على المستوى الطبيعى تمثل فى السلسلة التى انتهت بحفيده "خالد تحية"، و"عبد الله" امتد سلساله حتى وصل إلى الدكتور إمام، حتى الوقائع نفسها دارت أيضا دورتها المتشابهة فبعد العثمانيين جاء دور الدول الأوروبية التى قامت بالدور نفسه من احتلال للآخر وفرض عنقائها المتوحشة، وقد استطاعت "هنائى" أن تقرأ عالميها الواقعى والكتابى جيدا، واستفادت بتقنية عالية من التاريخ ومن طاماته الكبرى وأحداثه الدامية.
ولكن إذا لم تكن هذه الكتابة فنتازيا، فما هى، وإلى أى شىء تنتمى؟، هذه الرواية هى كتابة الشعبى عن النظامى، هى تصوير الديكتاتور من وجهة نظر الحكايات الشعبية، فدائما ما يصنع المواطن البسيط المقهور صورة خيالية أسطورية للحاكم، وعادة تتمثل فى جانب يتعلق بغرائبية شكله وقبل ذلك نشأته المختلفة ثم تمتد إلى ولعه المجنون بأشياء مختلفة مغايرة وشاذة، وأخيرا تهبه هذه الحكايات حيوات أخرى متعددة، ويمكننا أن نراجع ذلك فى قصص حياة حكام مشاهير مثل نيرون والحاكم بأمر الله الفاطمى، ويظل هذا الحكى الشعبى منتشرا يتردد فى حكايات الليل ويقوم بها فن السامر والأراجوز والمسرح السياسى، حتى يبدأ هذا الشكل الأسطورى فى الاختلاط بالتاريخ الرسمى، ولكن "شرين هنائي" هنا فى هذه الرواية عكست هذه الرؤية وأثبتت فى الرواية التى تمثل هنا (الكتابة الرسمية) أن هذه الأمور حقيقية وليست من خيال رجل الشارع/ الشعبى، وأن لها منطقها الخاص الذى تحمله فى داخلها، والذى نستطيع من خلاله أن نفهم تصرفات كل شخصية، بمعنى أن "شرين هنائي" قالت بأن أقصى درجات الخيال هو مجرد حقيقة بسيطة، فكون صلاح الدولة هو الوحيد الذى يملك شخصية أسطورية وسط عالم من العاديين والفانين فذلك يفتح باب الرمزية على مصراعيه، وأن تصورنا المرعب لحكامنا المستبدين هو جزء من شخصيتهم الحقيقية.
من جانب آخر اختيار "شرين هنائى" كى تدور الرواية فى نهايات العصر المملوكى المتهالك الضائع فى مقابل بداية الثورة المصرية الحديثة فى 25 يناير، أمر يدعو للتوقف بعض الوقت أمام رمزيته، فقد كانت شرين هنائى ترى الشروخ التى تكمن فى بدايات الثورة المندفعة الممتلئة بالحماس، والتى تكاثر عليها المتكالبون والمنتفعون كى يمزقونها شر ممزق كما كان يفعل صلاح الدولة النجمى فى ضحاياه.
الخلاصة أن "شرين هنائى" استطاعت فى "طغراء" أن ترسم صورة للحاكم الذى يطور صورته الخارجية حسب مقتضيات الأمور لكنه ظل بوشمه وخيط الحرير وبنهمه للدماء كما هو، كما قدمت صورة ثابتة للشعب الذى يعشق طغاة حكامه خوفا وطمعا، ولكن يظل السؤال الذى نوجهه لـ"شرين" لماذ جاء الحل من الخارج على يد نورين ولم يكن للشخصيات المحبة مثل "خلود وإمام ورقية" أى دور سوى المحاولات الفاشلة؟.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة