فى مصر، لماذا يعيش نابليون بونابرت، ويموت كافاريللى دى فالفا؟ لماذا نتذكر شامبليون، وننسى لانكرى؟، لماذا نحفظ أسماء وصور كاسترو وجيفارا، وننسى خوسيه مارتى وفيكتور جارا؟، لماذا تلمع سيرة شيخ السادات وتنطفئ بطولة مصطفى البشتيلى؟، لماذا تحتفى الشوارع بأوزوالد فينى، وتنكر جون فينى؟
هذه ليست ألغازا تمهد لشهر الفوازير، لكنها أسئلة حرجة عن كيفية بناء ذاكرة الأمة، وهى مهمة تبدأ بطريقة كتابة التاريخ، ولا تنتهى بتماثيل وأسماء الشوارع، فهناك طاعون رسمى يهدد وجود الشعب فى متون التاريخ، ويطمس ذاكرة الثقافة والفن لصالح الحكام والجنرالات ورجال المال والدين.
قبل سنوات شعرت بالخجل عندما قرأت سيرة الشاعر المناضل الكوبى خوسيه مارتى، وتعرفت على مؤلفاته الرائعة فى حب بلادنا، وكتبت حينها مقالا بعنوان: «عار على العرب ألا يعرفوا خوسيه مارتى..»، وتعمقت أكثر فى تتبع مواقف الأجانب الذين عاشوا فى مصر، وطبيعة علاقتهم بها، ولذلك كنت أتوقف دوما أمام الأسماء الأجنبية فى تاريخنا، وعلى جدران شوارعنا، ولطالما سألت نفسى عن سر تسمية «ميدان فينى» فى منطقة الدقى، وكنت أتصور فى البداية أنه اسم سيدة، لأن الجرس الموسيقى للاسم يذكرنى بالإمبراطورة أوجينى نجمة حفل افتتاح قناة السويس أيام الخديو إسماعيل، ولما تغير اسم الميدان إلى السد العالى، ظللت أسميه «ميدان فينى» دون أن أعرف لماذا، فأنا من أشد أنصار السد وحكاية السد وزعيم السد، وثقافة السد. «نقطة ومن أول السطر»
ثقافة السد ليست نهاية جملة، لكنها مفتتح للموضوع كله، لأننى اكتشفت بعد قراءات مكثفة، أن هناك ثقافة شاملة توازى فى عظمتها قصة البطولة السياسية والاقتصادية والعلمية والعمالية التى أنجزت بناء السد العالى، وربما يتصور البعض أننى أقصد وفقط نجمة أغسطس لصنع الله إبراهيم، أو جوابات حراجى القط للأبنودى، أو عدة أفلام مثل «الناس والنيل، أو غراميات ماجدة وإيهاب نافع، أو عشرات الأفلام التسجيلية، لكننى اكتشفت أن هناك تراثا ثقافيا هائلا ارتبط ببناء السد العالى، ولم يتوقف عن إبداعات المصريين، بل شاركت فيه مؤسسات ثقافية عالمية، ومثقفون وفنانون من أنحاء العالم، كان من بينهم جون باتريك فينى، وقلت لنفسى: هوووبا، لا شك أن هذا السينمائى الكندى هو صاحب تسمية «ميدان فينى سابقا –السد العالى حاليا»، فهو مخرج فيلم ينابيع الشمس الذى تتبع النيل من المنابع وحتى المصب فى رشيد، وسجل ملحمة ترويض النهر بكل تفاصيلها، وقدم للعالم العديد من الكتب عن مصر، لكن أملى خاب عندما اكتشفت أن الميدان لا يحمل اسم الفنان النيوزلندى المهاجر إلى كندا جون فينى، بل يحمل اسم رجل أعمال بريطانى اسمه أوزوالد فينى، والأرجح أن القدر احتفظ باسمه فى هذا الميدان الجميل، بعد اقترابه من مجال الإعلام وشرائه لصحيفة «إيجيبشيان جازيت»!
طبعا طويت خيبة أملى داخل نفسى، حتى أعاد مهرجان الإسماعيلية عرض فيلم «ينابيع الشمس» عام 2009، وكان فينى قد رحل عن العالم قبل أقل من 3 سنوات، وتصورت أن أحدا سيتذكر هذا الفنان عاشق مصر، لكن الفيلم مر، بدون أن يلفت نظر أحد، فقط اكتفينا بذكرى مرور أربعين عاما على انتاجه، وعرضه عام 1969 لمدة أسبوع واحد، وفى لفتة طيبة قدم المهرجان تكريما مستحقا لمدير التصوير حسن التلمسانى الذى شارك فينى فى هذه المغامرة الفنية.
وفى دورة هذا العام من مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة، عاد فينى ليذكرنا بوجوده من جديد، فقد ترددت فى أوساط التشكيليين لعدة سنوات شكوى من فقدان وثيقة سينمائية مهمة تضم 80 لوحة من أعمال الفنان الراحل حسين بيكار، كان قد رسمها فى الستينيات بعد اتفاق مع وزير الثقافة ثروت عكاشة والفنان حسن فؤاد رئيس قطاع السينما التسجيلية ليسد ثغرة بصرية فى ملحمة إنقاذ آثار النوبة من الغرق تحت مياه النيل خلف السد العالى، واستخدم جون فينى هذه اللوحات فى فيلم تسجيلى بعنوان «الأعجوبة الثامنة»، لكن هذا الفيلم اختفى فى ظروف غامضة، تكشف مصيبة الإهمال الذى يهدد ذاكرة مصر الثقافية منذ سرقات الآثار والحفريات القديمة قبل قرون، وحتى سرقة لوحة «زهرة الخشخاش» لفان جوخ من متحف محمود خليل قبل سنوات قليلة!
من حسن الحظ أن إخلاص المحبين يغطى عجز المؤسسات الحكومية، فقط استطاع أحد محبى بيكار المهندس كريم علاء، التوصل إلى معلومة عن وجود نسخة من الفيلم فى أرشيف السينما النيوزيلندية، لكن المؤسسة ترفض التعامل مع أشخاص، وبرتوكول عملها يفرض عليها التعامل مع جهات رسمية، وفشل علاء على مدى 4 سنوات فى الوصول لنتيجة مع الجهات الرسمية، حتى التقى مصادفة بالناقد السينمائى يوسف شريف رزق الله، وأطلعه على القصة، واهتم رزق الله بالموضوع وطلب بيانات كاملة عن المراسلات، وتحدث مع السيناريست محمد حفظى مدير مهرجان الإسماعيلية، الذى تحمس لمهمة استعادة الفيلم المفقود، ومن جانبه صمم رئيس المركز القومى للسينما الدكتور كمال عبدالعزيز على استعادة الفيلم بأى ثمن، ودفع تكليف ترميمه، وبعد 6 أشهر من المباحثات والمراسلات، وصلت نسخة الفيلم إلى مصر ليعرض أمس فى حفل خاص بالدورة 17 لمهرجان الإسماعيلية.
ما يعنينى فى هذه القصة هو، الدور الأهلى الذى يغار على تاريخ مصر، وفنونها، صحيح أن الجهود لم تكتمل إلا بمشاركة المؤسسات الرسمية، لكن الدرس المستفاد هو عدم تهاون الشعب فى صياغة مستقبله، والدفاع عن فنونه وتاريخه، بحجة أن الدولة هى المسؤولة، فلا بديل عن التكامل وتنسيق الجهود بين الشعب والدولة كمقدمة لأى تطور يمكن أن يحدث فى مصر.
والطريف أن كل الوثائق وشهادات الفنانين تتحدث عن احتواء الفيلم على 80 لوحة لبيكار نفذها بألوان الجواش منها 50 لوحة صغيرة و30 لوحة كبيرة يزيد طولها على 4 أمتار، لكن كريم حدثنى عن 85 لوحة، وعندما راجعته فى الرقم، قال لى إن هناك معلومات أخرى تتحدث عن 85 لوحة، وعلى كل حال إحنا هنشوف الفيلم الليلة ونعدهم!
واستدرك كريم، معلوماته بإضافة جديدة، أخبرنى فيها أنه استطاع المشاركة مع ناجى الشناوى نجل الشاعر الغنائى الشهير مأمون الشناوى فى تقديم نسخة مصرية من «الأعجوبة الثامنة»، بعد أن علم بوجود صور فوتوغرافية لدى الفنان صبحى الشارونى لـ46 لوحة فقط من لوحات بيكار فى هذا الفيلم، وبذل ناجى جهدا كبيرا فى تصحيح ألوانها ومونتاجها، وأخرجها فى فيلم مبسط رفعه على يوتيوب، لكن المفرح والباعث على الأمل أن مصر استطاعت أن تسترد جانبا مهما من تاريخها، عندما تضافر حماس الهواة ومحبى الفنون، مع إخلاص نوع من المسؤولين الذين انتصروا للفن والتاريخ، ولم يستسلموا لقيود البيروقراطية التى تهدد روح الإبداع فى مصر.
وفى الأسبوع المقبل، نعود لقصة جون فينى، ونحكى لكم عن الفيلم بعد مشاهدته.
ربما نشعر بخيبة أمل عندما نفشل، لكننا سننقرض إذا لم نحاول، ونحاول، ونحاول، و... (مغنية الأوبرا الأمريكية بيفرى سيلز)