دائمًا يكون داخلنا حنين للأرض..
عندما كنا نجتمع فى منزل العائلة فى الطفولة البعيدة كنا نسأل جدتى بعد أن يكون اللهو قد مل منا و تعب، أين سننام يا جدتى ؟ فتجيبنا دون اهتمام ( فى أى مكان ) فنكرر السؤال فترد علينا بعد أن ترتشف رشفة من فنجان قهوتها ( الأرض واسعة ) فتلحظ رفض بعضنا، فتنظر إلينا وكأنها تريد أن تعلمنا شيئًا وتقول (نحن منها وإليها) ثم تتابع التسبيح بمسبحتها فى هدوء تام، وكأننا يجب أن نفهم ونكف عن الجدال والسؤال، و كانت نظرة استنكار عينيها من خلف نظارتها السميكة كافية لنستسلم،
لم نكن فى هذه السن المبكرة نفهم تلك الجملة تمام الفهم، ولكننا مع مرور الوقت فهمناها وأدركناها جيدًا خاصة عندما ذهبت جدتى إليها، وتركتنا فوق الأرض لحين لا يعلمه إلا المولى عز وجل قد يطول، وقد يقصر، ولكننا لا محالة سنذهب إليها، رحم الله جدتى وأمواتنا جميعًا، فقد عادوا للأرض تاركين خلفهم سيرة طيبة، و كلمات بسيطة، ولكنها عميقة المعنى وكأن التجاعيد تنطق دومًا بالحكمة.
والفلاح الذى يترك أرضه ويهاجر إلى المدينة طمعًا فى العلم أو الحصول على وظيفة بعد أن طارده الفقر فى قريته هذا الفلاح يظل لديه الحنين فى العودة مرة أخرى لداره البسيطة ويظل حلم شراء فدان أرض يراوده، مهما أغرته أنوار المدينة، ولو سافر للخارج يظل يتابع أخبار بلاده فى اشتياق و لوعة، ويكرر أنه لولا لقمة العيش ما ترك أهله وسنده، وبمجرد أن يشعر أنه أدى المهمة فى الخارج يعود مسرعًا وبمجرد أن تطأ قدميه الأرض التى اشتاق إليها يشعر براحة نفسية وسكينة.
ومهما طال السفر وإلى أى مكان كان السفر تظل مكالمة التليفون الرابط الأسرع، لتلاشى إحساس الغربة، فيكفى أن تضغط على أزرار هاتفك لتسمع صوت يذكرك بكل شىء تفتقده، شىء تحمله معك فى كل مكان، شىء يظل يداعب تفكيرك، هذا الشىء هو الحنين للأرض.
لا تصدق من يقول لك أنه هرب من أصله فكل هذا كلام مبالغ فيه، حتى ولو أقسم لك بأنه لن يعود، فصوت الحنين يظل يتردد داخله كالصدى الذى لا ينتهى و لن ينتهى .. يظل دائمًا لديه الرغبة فى العودة ليرتاح، لن يغنيه رغد العيش عن العودة لهذه الأرض مرة أخرى حتى، ولو مات فدائمًا وصيته أن يدفن فى أرضه، هى أصول لا نشعر بأنفسنا إلا باشتياقنا إليها، هى أصول لا نشعر بها إلا ونحن فى غربة عنها، فنحن منها وإليها كما قالت جدتى.
صورة أرشيفية