فؤاد قنديل يكتب: الساعة تدق السبعين

الأربعاء، 04 يونيو 2014 02:03 ص
فؤاد قنديل يكتب: الساعة تدق السبعين الروائى الكبير فؤاد قنديل

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
صعبٌ علىّ وربما عليكم تصور أنى بلغت عامى السبعين.. هكذا تعبث بنا السنين..هل ثمة لعبة أو كمين؟ أم مؤامرة كونية لاختطاف طفولتى التى أعتز بها وأتمسك بأحوالها وبراءتها وجنونها وقوة الأمل المترسبة فى قاعها .. لكن المؤامرة لن تجدى لأنى لا زلت برغم السبعين طفلا يلعب ويضحك ويركض ويرقص ويحن لأمه التى رحلت منذ ثلاثين عاما ويفرح بالعيد ونزول البحر، وما يزال مولعا بكل الحيوانات حتى وحيد القرن وسيد بك قشدة والفهد والسبع، وإن كان يميل أكثر إلى الفيل والطيور.. أنا طفل لأنى أكره الأحزان ولا أمنحها الفرصة لتأكل قلبى كما يأكل الصدأ الحديد، ولم يكن ما أدركته بحكمة العمر ولكن بالفطرة.. أتعس ما يصيب الإنسان تلك الأحزان التى يلذ لها أن تهاجمنا مع أن كثيرا منها هش وضبابى ومجرد سحابات من الدخان لا تستحق حتى النظر إليها فضلا عن أن نسمح للعقل أن يفكر فيها وتصبح همه.
خدمتنى طفولتى بأن شجعتنى على تجاهل الشيخوخة التى هى فى الأساس حالة نفسية وعقلية، وقد عرفتها طبعا عبر الصحة المتراجعة تدريجيا بدهاء ونعومة كنعومة اللصوص والمحتالين. قد لا يؤمن البعض أن الهِرم ( بكسر الهاء) محتال يتقن عمله ويبرع فيه ويدهسنا وهو يبتسم، ويلقى على أسماعنا النكات التى تسخر من الشباب.. وشجعتنى طفولتى على أن أحسن الظن بالناس وألتمس لهم الأعذار لأن أخطاءهم ليست كلها من صنع أيديهم.. الإنسان لم يخلق نفسه ونادرا ما يجرى تعديلا على خلقته. وسوء الظن نافع لكنه يورث الهم، وأنا لم أسمح للهموم أن تبنى عُشا لها فى قلبى، لأنه خلق فقط للحب، ولم أستسلم للأحزان .. لقد تسلل إلىّ اعتقاد بأن الهرم لا يحل إلا إذا أعلن الإنسان انتهاء علاقته بالشباب وقرر التوقف عن اللعب والفكاهة وتطوير الأدوات وتذوق طعم التجارب ورأى أن من العيب معانقة الحياة.. أنا لا أفكر فى الموت مطلقا، أولا لأن الموت قادم لا محالة وثانيا لأن الموت بوابة مثل البوابات الإلكترونية المنتشرة الآن عند كل عبور حتى لو كان لدخول الحمامات بغرض الكشف عن المقتنيات المادية المخالفة، وثالثا وهو الأهم لأنى حاولت أن ألبى قدر طاقتى وصايا الرب فأسعد لحظات حياتى أن أرضى حبيبى الأول الذى اعتدت أن أكلمه وأرجوه وأعاتبه و أشكوه له.
على أننى إذا كنت قد بلغت درجة من النضج، فقد دفعت مقابلها ثمنا غاليا.. خليط معتق من السنين واللحظات الحرجة والألم واليأس والكمد والفشل والخيانة والغدر والحوادث والفقد، أما اللحظات المبهجة فقليلة والأصدقاء المخلصون أقل والنجاحات نادرة لكن الآمال كبيرة، ووجود الأمل فى حد ذاته فى رأيى مصدر خرافى للسعادة، وهذا هو السر فى قيمة الإيمان بالله، بوصفه السند الأعظم الذى بفضله أحط على الوسادة رأسى التى أرهقها العمل والتفكير، وسرعان ما أغط فى نوم عميق.. الإيمان إذن له علاقة وثيقة بالنوم، كما أن له علاقة بالتواضع وتجنب الصخب والضجيج لأن الرزق يعرف عنوانى.
أنا لم أفاجأ ببلوغى السبعين لكنى فوجئت ببلوغى الستين، فقد انْقضّت علىّ سن التقاعد وتم إبلاغى بأنى أصبحت خارج دائرة العاملين الفاعلين بالمجتمع من وجهة النظر الرسمية، وبعد استسلامى للخبر الجديد واقتناعى بأنى أصبحت فى زمرة كبار السن غدوت أراقب الأيام والسنون (كلمة مقصودة) دون أن أسمح لآلة المراقبة والتربص والتوجس أن تمر على روحى، وقد أشرقت علىّ مجددا اهتماماتى الفلسفية بالزمن.. أنا ممن يرون أن الزمان وإن كان مُكونًا رئيسا من مكونات الكون، بل أبالغ فأقول إن الكون ذاته ليس إلا تشكيلا ماديا لتسهيل مهمة الزمن، وأرى فى الوقت ذاته أن الزمن وجهة نظر فهناك زمن نفسى وزمن وجودى وزمن فزيائى وزمن تخييلى، وقد أختلف عن كثيرين يقدرون المكان أكثر من الزمان، مع أنه الأجدر بالاهتمام لأنه السر الكامن وراء حياة كل الكائنات حتى فى الصحراء حيث لا مكان إلا الخلاء.

المكان زمان يتجمد، والزمان مكان يتحرك.. الزمن يحاصرنا ويدقق فى كل حركة وكل همسة وكل نَفَس.. الزمن هو الميلاد والموت، الزمن يكمن لنا فى كل نجاح وفشل، وصحة ومرض وحب وكراهية، الزمن كائن خطير أحترمه ولا أخافه لأنه متابع وليس المسئول عن أى جرم أو إخفاق أو ضياع أو نصر ولا لحظة سعادة. لكن تجاهله تماما ليس أمرا مقبولا ولا منطقيا.
الزمن غير الوقت وغير العمر .. الزمان قياس لمسيرة الكون والكائنات وحركة المجرات والمبتدأ والمنتهى. أما العمر فقياس شخصى للإنسان أو الحيوان والجماد. والوقت هو المسافة الزمنية بين حدثين، إن كنت أحترم الزمن فلا أنشغل به كثيرا ولا أخافه لأنى أومن أن الحب أقوى سلاح ضد الزمن.. الحب إكسير الحياة وحاميها من الزمن، ولذلك أشعر بالغبطة لأنى من عشاق الحب بكل أنواعه وألوانه.. أنام وأصحو وأكتب وأغضب وأثور وأعمل وأنام بالحب.. الحب كالأمل غذاء الروح.. يكمن فيهما سر الحياة السعيدة والممتدة إلى ما بعدها.. الحب أكبر من الأمل لأنه يمنح الإنسان عمرا فوق العمر المقرر له عمقا وطولا .. كمّا وكيفا .
أنا طبعا لا أكف عن الحلم ولا عن الأمل فى غد أفضل لى ولوطنى وللعالم، وكم يبهجنى أن أسمع عن تقدم ولو مليمتر فى حياة أى شخص فى الكون، لكننى لست أسير أحلامى ولا أنتظر تحققها بوله وشغف، وأعترف أنى أعمل من أجلها وأحاول مساعدتها على أن تتجسد فى الواقع بالجهد والتفكير، لكننى لا أحزن إذا لم تتحقق فأنا أعرف أن المعطيات التى بثها الله فى جيناتى هى أوراق اللعب الخاصة بى وليس علىّ أن أسرق ورقة من هنا أو هناك.. أرنو للهدف ثم أشتبك من أجله فى عمل شاق وإصرار وأرقب النتائج وأرضى بها أيا كانت مؤمنا بأنه الرزق، فأحمد الله على ما آتانى، ولا أحاول لىّ عنق الرزق بزيادته بأساليب تتنافى مع الكرامة، بل كثيرا ما أخجل من طلب حقى ثقة فى أن أصحاب الضمير سيردونه، وعادة لا يردونه خاصة الحكومة.. المهم ألا يمس كرامتى طلب شىء مهما كان ثمينا، فالكرامة أغلى من الحياة .. وخلو جيبى مع الكرامة هما الثراء الحقيقى.. أنا أنظر إلى كل شىء ولكل شخص ما عدا أولادى ووالدى رحمة الله عليهما بعيون الكرامة .. إنها الميزان الذى أزن به سلوكى تجاه الآخرين وسلوكهم تجاهى. ويمكن القول بأنى مبرمج لأتحرك فى الحياة طبقا لمبادئ غرستها أمى فى نفسى، وأضاف إليها آخرون من أمثال جمال عبد الناصر الذى زادها رسوخا مثل الكرامة وتقديس العمل. الإرادة . كراهية الظلم . الاكتفاء الذاتى. الاعتماد على النفس. الاستقلالية. الأهمية القصوى للعلم والثقافة. احترام الآخرين والتسامح. الوطن قبل أى شخص أو متعة أو امتلاك. وأنا سعيد ببساطتى فأنا لا أطلب من الدنيا – ماديا - إلا القليل لأن المبالغة فى طلب المادة يقتضى القلق ويلهب الصراع ويلقى بالروح فى أتون المعارك.
لقد اختارت لى المقادير أن أهوى الأدب والثقافة فوهبتهما نور عيونى وقلبى وكل فكرى ووقتى، ونادرا ما أنفقت ساعة فى التقاط متعة شخصية بل كان كل ما أملك من أجل الهواية الوحيدة الجميلة التى أعتز بانتسابى إليها حتى أخرجت خمسين كتابا فى الرواية والقصة القصيرة والدراسات وأدب الطفل، اتخذت لنفسها طريقا صاعدة قى اتساق طبيعى مع السن والتجربة والنضج، وخدمت المؤسسات الثقافيةعلى مدى خمسين عاما بلا كلل وبقدر كبير من الإخلاص والابتكار، وسافرت إلى خمسة وعشرين دولة من أجل التحصيل الثقافى، وقرأت نحو اثنى عشر ألف كتاب ونلت شرف تقديم أكثر من مائتى كاتب جديد للساحة الثقافية بعضهم تألق، ولذلك فالرضا أحيانا يراودنى بعد أن أحسن بى الظن كتابٌ ومسئولون ونقاد فحصلت على عدد من الجوائز المميزة تقديرا لما منحته عمرى كاملا دون أن أبقى إلا القليل لعائلتىّ الصغيرة والكبيرة، وإن كنت أطمع فى إضافة وقت مستقطع حتى أنتهى من صياغة ما يشغلنى من أفكار، وأملى أن يكون ما قدمته للمكتبة العربية ذا قيمة .
إننى الآن وقد عبرت إلى السبعين وهى سن لا تسمح بطويل الأمل وتسمح فقط بالاعتدال نحو القبلة لدخول النفق الأخير أسأل نفسى وأسأل جميع من عرفونى ..هل يا تُرى ضاع العمر هدرا؟؟.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة