غمرنى أسى بينما أتابع أسماءهم، أسترجع صورهم وذكريات كانت لنا، انتابنى حزن لتك المسافات التى تفصل بيننا بتباعدنا عن الوطن وعن بعضنا.
أولئك الذين حملوا يومًا على أكتافهم أحلامًا ضاقت بهم أرضُ بلادهم بما رَحُبت؛ أخذتهم الغربة.. تقاذفتهم أمواجها وتاهوا فى ضيق دروب أزقتها. ينتظرون تبدل حال بلادهم لتفتح ذراعيها؛ تشير لهم فى غربتهم أن هلموا، أقبلوا، عودوا.
لم يبعدهم عن وطنهم سوى حلم "حياة كريمة".. يفنى الواحد منهم لأجله زهرة شبابه، يدفع شطرًا من حياته ثمنًا، يقدم راضيًا أجمل سنى العمر قربانًا لحلم قد يرى النور يومًا.. يحيا غريبًا، يتحمل مضايقات الكفيل وأصحاب بلد جاءه وقد ظنه يومًا سيحتضنه؛ فقد قدم له من عمره من جهده من وقته.. لكنه يظل يحمل لقب "وافد، مقيم" هناك، وهنا "مغترب"، يُصبِّر نفسه "مرحلة مؤقتة".. حتمًا سأعود يومًا يكتشف بحسرة أنه طارد طويـــلًا أجنحة فراشات السراب.
خيرة أبناء الوطن، منهم من عاد تحمله قدماه، منهم من عاد على الأكتاف محمولًا، منهم لم يجد يدًا من بنى وطنه فى الغربة تمتد تحمل جثمانًا يعيده لأصل منبته؛ فضمته أرض لم تشعره يومًا أنه جزء منها؛ تبدأ تأكل جسده كما فعلتْ بروحه وهو حى فوقها.. ومنهم من ينتظر محتومَ قدره.
برحيلهم، انشغلوا بالحلم البعيد؛ ينسجون بآمال خيالهم خيوطَ مستقبلٍ يأملونه بجمع "مبلغ" يذبل لأجله العمر، يعود باحثًا عن موطئ قدم، قُدِّر له ألّا يجد من الآباء والأجداد من فكر يومًا أن يصنعه لذلك الابن القادم من الغيب.. يحاول صُنعَ واقع مغاير لما رحل عنه، يغلق به صفحة الغربة؛ ليعود للأبد.
يقلب صفحات جواز سفره الذى اصطبغ بأختام الرحيل والعودة وبينهما أيام شديدة الوطأة على النفس مريرة.. ينظر لحقائبه المتعبة؛ يسألها أما أن لكِ السكن؟ ترتاحى وتريحى عاتقى من وجع حمل أثقالك الفارغة؟! كيف أجمع شتات نفسى المتناثرة هنا وهناك؟ ومتى؟!
اعتاد - ولم يألف - جمود المطارات الباردة.. المطارات ليست جزءًا من المدن، هى منطقة وسطى، تفصل الحياتين "حياة الوطن" و"شقاء الغربة".. لا أحد يهوى البقاء بين جدران المطارات بنهارها الليلى الباهت الذى لا يعرف شمسًا تُشرق ولا حلمًا يُولد.
المطارات كالموانئ كالمحطات.. رغم صخبها الدائم، سريعة إيقاع الحياة، رغم ازدحامها لا تحمل من دفء المدن وضجيج شوارعها وحاراتها، ولا عرق أبنائها الكادحين سعيًا، لا تملك تفاصيل أمنيات أبنائها.. ولا تمشية ساعة العصر يحتضنهم المكان بأشجاره وتفاصيل شوارعه وانعكاس ضحكات وجوه حوله يشبهونه فى عينيه، ولا سهر لياليها حتى الصباح وأحلام بسطائها وإيقاع يومياتها.. باقية هى المدن، نابضة بالروح بالأمل، بالدموع مصبوغة حياةُ المطار.. دموع ألم المودعين ودموع فرح القادمين ومن يستقبلهم.
تمضى بهم الأشهر ثقيلة، يعدّون أيامها بل ساعاتها عدًا بشوق لـ"إجازة قصيرة" فى انتظار لحظة امتلاء الصدور بنسائم الوطن المحرومين منها، ويبلغ بهم الشوق مداه للارتماء فى أحضان الأهل والأحبة.. لحظةَ لقاءٍ تُذيب ثلوج الحرمان وما آذت به النفوس وشوهت به الآمال.
وتبدأ الإجازة المنتظرة لقضاء أيام تخفف عبء الغربة، ومع البدء يعتصرهم ألم مرارة الاعتراف: ليس ذلك حلمنا بإجازة فى حضن الوطن؛ لا الأصدقاء على عهدهم بقوا ولا الحياة توقفت برحيلنا ولا الأحبة ذهبوا حزنًا كما أسمعونا دائمًا: "يكفينى دفء أنفاسك بقربى، كيف أصبر على حياة تخلو من وجودك؟"
تباغته عقارب الساعة؛ يبدأ الواحد منهم بإعداد الحقائب؛ لتدور الدائرة من جديد. مداريًا عن الجميع وجع إحساسٍ فى موطنه بغربة أشد وطأةً مما عاناه بعيدًا، فَلِغربةِ النفس وجعٌ مختلف.. كيف يداويه؟!
السيد عبد العليم: ماذا تفعل الطيور بعدما تهاجر؟!
الأحد، 22 يونيو 2014 08:07 ص
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مروه
فَلِغربةِ النفس وجعٌ مختلف
عدد الردود 0
بواسطة:
درويش
انت كاتب رائع
عدد الردود 0
بواسطة:
الحاج / أحمد
يا عيني عليك
و بليغ حمدي أنجز في كلمتين واحشتيني يا مصر
عدد الردود 0
بواسطة:
اسكندراني مغترب وسعيد بغربته
تسوي ايه انك توصل لمرخلة انك تتكسف تنزل من بيتكم خجلا من بطلاتك وكبر سنك
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد شاهين
حرام عليك قلبت علينا المواجع
عدد الردود 0
بواسطة:
masr weeeebas
آآآآآآآآهـ يا غربة السنين آآآآآآآآآآآآآ هـ
عدد الردود 0
بواسطة:
المصرى
المهاجرين نوعان ياسيدى
عدد الردود 0
بواسطة:
كيمو
الي رقم 7