ظهور شعارات ورموز ذات مدلول دينى أو سياسى غالبًا ما ارتبط تاريخيًا بإشكالية اجتماعية، بمعنى أن ظهورها يأتى ليواكب حالة اجتماعية مؤقتة، أو للترسيخ لمفهوم معين كنوع من الضغط النفسى أو التحرش الفكرى إن جاز التعبير بالتوجهات والثقافات المختلفة داخل نفس المجتمع.
وفى الأغلب هى شعارات ذات مفهوم عقائدى أو سياسى أو اجتماعى، تسعى للتأثير على الرأى العام وتوجيهه، وأيضًا ضمان الاستمرارية فى المشهد، أو الحشد أمام قضية معينة والتحفيز ضدها.
أغلب الرموز الدينية المتداولة حالياً يتم توظيفها لكى تعبر عن توجه عقائدى أو سياسى، وتكون مرتبطة ببعد نفسى مُركّب لدى المروجين لها يعكس إحساسًا زائفًا بالذنب أو شعور بالاضطهاد كأقلية غير مقبولة مجتمعيًا، أو نتيجة لخسائر مرحلية على المستوى الفكرى أو السياسى، فيصبح إطلاق الشعارات والرموز ذات المدلول الدينى فى الاحتفالات أو أماكن التجمعات هدفه الإعلان المستمر عن التواجد، والتوحد ضد من يعارض هذا الفكر بصرف النظر عن ماهيته.
فى المسيحية قبل القرن الرابع الميلادى، وتحت الحكم الوثنى الرومانى لم يكن لدى المسيحيين الأوائل فرصة للتعبير بحرية عن معتقدهم لتعارضه مع التعددية الوثنية حينها، وقد كان لزاماً عليهم إخفاء تدينهم حتى لا يتعرضوا للأذى والتنكيل على يد الوثنيين، لهذا استخدموا شعار السمكة المسمى "إيسوس" باليونانية للتعرف على بعضهم البعض! وأصبح من يحمل شعار السمكة أو يستخدمه أو يرسمه فى مكان ما هو شخص موثوق فيه ويمكن التواصل معه بلا خوف..أما ظهور الشعار مؤخراً وانتشاره فى العصر الحديث فى مجتمعات ذات أغلبية مسيحية، كان أمرًا غير مبرر، نظرًا لانتفاء علة ظهوره، وقد أفسره هنا على أنه محاولة مستترة من رجال الدين لجذب انتباه الشباب المتمرد على تعاليم الكنيسة والمفاهيم الكنسية ومحاولة استقطابه دونما اللجوء لاستخدام شعارات مقدسة أكثر صراحة كالصليب مثلاً.
وفى مصر نجد أن هذا الشعار انتشر فى فترة ثمانينات وتسعينات القرن الماضى، كملصق تم تداوله بين الأقباط المصريين فى فترة تعرض فيها الأقباط للعديد من الاعتداءات من جانب الجماعات الأصولية المتطرفة حينها، والتى حاولت بث الفتنة الطائفية داخل المجتمع من خلال افتعال أعمال عنف وجهوها مباشرة للأقباط المصريين.
وفى اليهودية، نجد أن الشعار المتعارف عليه هو نجمة داوود، أو ترس داوود كما يسمى تاريخياً، وقد أصبح الشعار الأكثر تطرفاً فى العصر الحديث، ونفس الشعار شكلاً مستخدم فى الهندوسية ويسمى الماندالا وكان يرمز لبعض التعبيرات الميتافيزيقية فى المعتقد الهندوسى، لكن كما هو معروف فى الموروث الشعبى اليهودى فإن هذا الشعار يرمز للحماية والصمود، وبالرغم من انتشاره بكثافة مع أى تواجد لأقلية يهودية فى العالم، إلا أنه لم يكن كافياً لحمايتهم وإنقاذهم من براثن العنصرية فى عهد النازى، فتم إجبارهم جميعاً على وضع شارة صفراء على شكل نجمة داوود على ملابسهم بغرض تميزهم، ولم يسلموا من الطبقية حينها، فكانت النجمة الصفراء لليهودى، والمثلث الأصفر والمثلث الوردى على شكل نجمة لليهود المثليين، والمثلث الأصفر مع المثلث الأسود للأشخاص المنتمين للعرق الأرى وكانت لهم صلة قرابة مع اليهود، ربما كانت تلك الحقبة هى الأكثر إيلاماً فى تاريخ اليهود الحديث، فأصبحوا جميعاً فى حالة تعلق نفسى بشعار نجمة داوود، ليذكرهم دائماً بحالة التفرد والعزلة العنصرية التى يفرضوها على أنفسهم أينما كانوا، بالطبع لاعتقادهم العنصرى المغلوط بأنهم الشعب المختار، وأنهم مميزون عن الأغيار من البشر.
اليوم تطالعنا مجموعات أخرى ذات فكر أصولى متطرف، سعت تلك الجماعات بقوة نحو إقامة دولة ثيوقراطية على أرض الوسطية والاعتدال فى مصر، وعلى مدار ثلاث سنوات صعدوا خلالها عنوة لمنصات الحكم، وتوغلوا داخل مؤسسات الدولة حاولوا عمدًا تشويه هوية مصر الثقافية المبنية فى الأساس على التعددية الثقافية وقبول الأخر، لكن سرعان ما تكشفت وجوههم الحقيقية التى ترفض تماماً وجود أى مساواة حقيقية بين أبناء الوطن الواحد.. هؤلاء الأدعياء وجدوا أنفسهم محاصرون بعقيدة راسخة وأبدية لا تتزعزع على هذه الأرض بفضل الله ورعايته، وهى أن "الدين لله والوطن للجميع" لا لأحد أن يحاول العبث بهذا المفهوم السرمدى إلا ويحترق بفعلته.
فعندما يحل الخطر بهذا الوطن سرعان ما تتقمصه حالة فريدة من الوحدة والتماسك لا يعلم سرها أحد! ربما لا يطرب المتشددون الجدد ودعاة الطائفية لهذا التفنيد، لكنها الحقيقة دون تزييف أو مزايدة..! كيف يمكن لمروجى الضلال والفتنة أن يعتقدوا فى نجاح حروب الملصقات والشعارات والمطبوعات؟ وهى التى طالما أثبتت بما لا يدع مجال للشك أنهم يسيرون من انحدار إلى انحدار..! ربما حان الوقت لإسقاط مفاهيم دعوية بالية تعتمد على الحصار الفكرى وتنتهج ثقافة المنع والترهيب تحت شعار الإيمان والتقوى، ولتحل محلها أساليب أكثر تحضراً ورقى وعقلانية لمواكبة الثورة الهائلة فى مجالات المعلومات والفكر.. أيظن هؤلاء أنهم يحسنون صنعاً حين يحاصرون البسطاء بالملصقات والمطبوعات والكتابات على الحوائط بدعوى تذكيرهم بما نسوه وتركوه ؟ وحقيقة الأمر أن هذا الشعب لا ينسى شيئاً، هو دائماً الأكثر تديناً واعتدالاً دون الحاجة لمستندات، وتجدهم فى الأسحار والأبكار يقدسون ويحفظون دينهم عن ظهر قلب ولا حاجة لهم بهذا الحصار المريب، البسطاء من أبناء هذا الوطن ببساطة لا يتوقفون عن ذكر الله والتسبيح بحمده والثناء على رسوله والصلاة والسلام عليه بلا انقطاع منذ ميلادهم وحتى فنائهم..
لهذا لا أرى أى مبرر لما يحدث الآن من صراعات بائسة بسبب حرب الشعارات والملصقات التى طفت فجأة على السطح دون سابق إنذار، إلا كونها محاولات يائسة من جانب الخاسر بغرض تعطيل مسيرة هذا الشعب نحو تحول سلوكى حضارى حقيقى يخرج بهم من منظومة الممارسات العشوائية والتبعية المقيتة التى لازمتهم طويلاً واحترفوها قسراً لسنوات، وعليهم الآن وبأنفسهم تغييرها جذرياً إن ما أرادوا اللحاق بركب التحضر والرقى، والسعى وراء حياة أكثر اعتدالاً واحتراماً للإنسانية..أقول لمن خسروا كل شئ على المستوى الفكرى والشعبى والسياسى محلياً، وأضاعوا الفرصة الذهبية للظهور بشكل أكثر تحضراً وإيجابية أمام المجتمع الدولى. كفاكم من الرجعية والتشدد ما أوصلتم أنفسكم إليه، فالدين يسر ومحبة وقبول واحترام، وليس لبضاعتكم الخاسرة رواج فى تلك الأرض.. إن شئتم أن تُصلحوا فبالحكمة والموعظة الحسنة، وليس بالشعارات والملصقات تستقيم الأمم..!
محمد أحمد فؤاد يكتب: ليس بالشعارات والملصقات تستقيم الأمم
الجمعة، 20 يونيو 2014 10:05 م