وكأن الحرف يأبى أن يعانق غيره ليسطر نبأ رحيلها. فحتى الكتابة تبدو مرتعشة، عصية، تتوجس خيفة وهى تتحدث عن امرأة اعتمدت الصدق فى كل ما تقول، فطهرت نفسها أولاً أمام ذاتها، لا لشىء سوى أنها "فتحية العسَّال"، فإلى أى مدى تتوقع أن تكون الكتابة صادقة مع نفسها وهى تتحدث عن هذه المرأة المناضلة.
يقولون بأن المرأة ناقصة عقل ودين، وأقول لو اطلعتم على ما بذاكرة النساء لاكتشفتم جهلكم. أنظر إلى ابتسامة عينيها وأساءل: أهو الفرح والانتصار للذات؟، هل كانت تدرك وهى طفلة صغيرة بأنها ستصل إلى ما تصبو إليها نفسها وهى طفلة صغيرة قص أخيها "حسنى" ضفيرتها لا لذنبٍ اقترفته غير أنها وقفت تطلُ من نافذتها على العالم!! لتصرخ الأسئلة: هل سامحته؟ كنت أتمنى أن تتحدث فتحية العسال من جديد لنساء وفتيات مصر الآن وهن يواجهن التحرش ويتعرضن لأبشع الاغتيالات الجسدية والنفسية، ولتروى لهن ما فعله شقيقها أيضًا عندما شاهدها ذات يوم وهى تسير فى إحدى المظاهرات المناهضة للاستعمار الإنجليزي، فما كان منه إلا أن عاقبها للمرة الثانية، لثبت فى نفوسهن الأمل والإصرار والعزيمة، غير أن عزاؤنا أنها تركت لنا من ضمن إرثها العظيم مذكراتها "حضن العمر" الصادرة مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
لا تختلف حياة فتحية العسَّال عن بقية بنات جنسها، فهى مثلهن مورس عليها القهر أشكالاً وألواناً، باسم الدين والعادات والتقاليد وباسم الجهل الذى يرفرف فوق الرؤوس مزهواً باستسلام العقول له، وتعد مذكرات فتحية العسَّال بمثابة الصرخة القوية والرسالة الموجهة لكل فتاة فى مصر، بل والعالم العربى، فبداية من مولدها فى 20 من فبراير لعام 1933 لعائلة متوسطة، وحرمانها من التعليم فى المرحلة الابتدائية، إلا أنها لم تستسلم لواقعها فعلمت نفسها بكتابة القصص بتشجيع من والدها، وعبر مسار الحكى والبوح بدون مواربة أو خجل تستمر فتحية فى الكشف عن المزيد من التناقضات فى مجتمع يتخذ من الشرف اسمًا لا فعلاً.
فمن بين ما تسرد فى مذكراتها "حضن العمر" تشير فتحية العسَّال إلى المفاهيم التى يتم تربية البنت عليها منذ نعومة أظافرها، وأولها "الشرف"، وباسمه تخضع لجميع أنواع القهر، حتى يذهب "الشرف" فى ليلة الزفاف، ناهيك عن الختان، ومن خلال تعريتها لمدى التناقض الآثم الذى نعيش فيه قصة صديقتها "أنيسة" التى أجبرها أهلها على الزواج من رجل لا تحبه، فكان الشرف فى ليلة زفافها هو دماء كتكوت "صغير الفرخة"، لتكشف بهذه الواقعة إلى أى مدى نعيش فى وحل باسم شعارات لا نجيد إلا ترديدها فقط.
ارتبطت فتحية العسَّال بالعمل النضالى – كما تشير فى مذكراتها - حينما بدأت تواجه العالم بمفردها بعد اعتقال زوجها الكاتب عبد الله الطوخى (1953 ـ 1955)، فانخرطت فى النضال الجماهيرى، بعدما أصبحت مسئولة عن لجنة العائلات التى تتابع أخبار ذويها المعتقلين، تلك اللجنة التى تم تشكيلها من أمهات المعتقلين، فأصبحت بمثابة حلقة الوصل بين السجن والخارج، ثم انخرطت فى الحياة الحزبية السرية، وشاركت فى المظاهرات التى تنادى بإلغاء الإحكام العرفية، وتوجهت إلى الرئيس الراحل محمد نجيب لتطالبه بتعميم المعاملة على المعتقلين فألقى بها فى تخشيبة قسم المطرية أربعة عشر يوما بمفردها مع طفلها الرضيع إيهاب.
ولم يتوقف نضال فتحية العسَّال حتى وهى مريضة، فكانت شديدة الحرص على أن تشارك رموز الثقافة والإبداع والفكر فى ثورتهم ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية لمصر، حينما جاء الدكتور علاء عبد العزيز، وزير الثقافة الأسبق، لينفذ مخططًا إخوانيًا لتجريب وهدم الثقافة، ومحو ذاكرة الوطن فى دار الكتب والوثائق القومية على وجه التحديد، فقام المثقفون بالاعتصام داخل مقر وزارة الثقافة، ولم يصبح مطلبهم الأول هو إقالة علاء عبد العزيز، بل إنهاء حكم الإخوان الغاشم عن مصر.
كانت فتحية العسَّال نادرًا ما تترك الوزارة يومًا نظرًا لظروفها الصحية، وتحاول جاهدةً أن تبيت مع الشباب لحماية الوزارة من أى محاولة لفض الاعتصام، وحتى إذا ما ألم بها الجهد والإرهاق كانت تأخذ قسطًا من النوم على أريكة بداخل الوزارة، وإن تغيبت ولم تستطع المجىء، كانت تتابع من خلال اتصالاتها الهاتفية ما يحدث وما يدور، وكنا كشباب ندافع عن قضيتنا، وهويتنا، تبث فينا روح الأمل والتفاؤل.
بدأت فتحية العسَّال الكتابة الأدبية فى عام 1957 واهتمت بالقضايا الاجتماعية وقضايا المرأة بشكل خاص، وتم اعتقالها ثلاث مرات بسبب كتاباتها عن قضايا المرأة، فاستطاعت أن تجعل لنفسها مكانًا متميزًا بين صفوف كبار الكتاب بعد نضال مرير حتى أصبحت من أفضل كاتبات العرب سواء فى الدراما المرئية أو المسموعة أو المسرحية، فصنعت من قضايا الناس مشاهد ناطقة وحية, وعندما افتتحت فصولاً لمحو الأمية فى حى السيدة زينب لاحظت فى تلك الفترة تحول السيدات عن الدروس للاستماع إلى إذاعة المسلسل الاجتماعى اليومى فى إذاعة القاهرة, فجاءتها فكرة أن تكتب مسلسلات إذاعية تخاطب من خلالها النساء فكتبت "ز س ز الذوق)".
كتبت 57 مسلسلًا منها مسلسل رمانة الميزان، وسيناريو مسلسل شمس منتصف الليل، وحبال من حرير، وبدر البدور، وهى والمستحيل، وحتى لا يختنق الحب، وحبنا الكبير، ولحظة اختيار، ولحظة صدق الحاصل على جائزة أفضل مسلسل مصرى لعام 1975، كما كتبت عشر مسرحيات وهى المرجيحة والبسبور، والبين بين، ونساء بلا أقنعة، وسجن النسا، وليلة الحنة، ومن غير كلام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة