جمال الجمل

شموس منتحرة وكوابيس واقعية فى جنازة المستقبل

الأحد، 01 يونيو 2014 11:04 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ليس لدى وصف محدد للحالة التى أعيشها منذ أسبوع، لكنها تشبه صرخة للداخل، أو محاولة للسباحة فى الرمل. الهواء لزج، والسماء حجرية، والأرض سجادة من الصمغ الساخن، وصورة المستقبل شاحبة بلا ملامح، والغد معلق فى الفراغ بين احتمالين كلاهما غامض
هذه الحالة السائلة المنسكبة بين النوم واليقظة يسميها انجمار برجمان «ساعة الذئب»، حيث تختلط الأحلام بالكوابيس، واليأس بالرجاء، ويتحول الزمن إلى قنفذ خائف، يشهر أشواكه فى دائرة سوداء، تقلد جثة شمس منتحرة.
> هل هذا يأس؟
- لا أعرف، فأنا لم أشاهد من قبل صورا فوتوغرافية لليأس
> هل هذا كابوس؟
- ربما، فقد أخبرنى فرانز كافكا عن أشياء مثل هذه فى مستعمرة العقاب، وقال إنها كوابيس لعينة.
> من هو كافكا هذا؟
- هو أنت، وهو أنا أيضا، هو شخص عادى، كان يحلم مثلى ومثلك ببرتقالة، فحاكموه على الحلم، ولم يعرف من هم؟، ولا لماذا سرقوا حلمه قبل أن يضعوا القيود فى رأسه، وجثة الشمس المنتحرة فى عينيه!
> ما هذه اللغة التى تتحدث بها؟، هل هى هلوسة أم نوع من الشعر؟
- صدقنى لا فرق، فالعالم كله يتحدث بشفرة معدنية جوفاء، وأنا أيضا لا أعرف إن كانت لغتى مفهومة لى، أم أنها مجرد أنين وحشرجات، كالتى أسمعها من الآخرين!
> هل تعرف من أنت؟
- أنا «آخر»، أنا «غيرى»، أنا لست أحدا ما، لذلك أبحث عنى، وعن أناس تشبهنى.
> وماذا تفعل فى هذا العالم؟
- أنفقت عمرى فى شراء الكتب، وجمع الأوراق جرياً وراء حلم لا أعرفه، ومجد لا أقصده، فلم أجن سوى أكوام من «القمامة»، أرهقنى نقلها من مكان إلى مكان حيث ما أرحل.
الكلمات التى تصورتها يوما غذاء للعقل، وصقلا للروح، صارت غذاء مستباحا للحشرات القارضة و«مفارش» مجانية تسألنى عنها الجارة العجوز
> هل ثمة شىء ثابت القيمة والمعنى فى هذا العالم؟
- بالأمس نظرت – متفحصا – فى المرآة، فرأيتها بوضوح، كانت مصقولة، فضية لامعة، تخلو من الوجه الذى كنت أراه فيها قبل خمسة وعشرين عاما.
لم أشعر بالغربة، قدر ما شعرت بالافتقاد فأنا لم أنظر إلى مرآتى منذ ربع قرن أو أقل قليلاً، بالرغم من أننى أعيش إلى جوارها ولم أفارقها
> هل هذه هى «النسبية»؟!
- ربما.
فأنا أعيش فى المكان نفسه، منذ ربع قرن سافرت إلى مختلف المدن والأماكن، ولم أغادر ذاتى أمشى فى الشوارع نفسها، منذ ربع قرن، ضجت الشوارع، ولم أضج! أحلم الأحلام نفسها، منذ ربع قرن، انكسرت الأحلام، فقبضت على جمر أحلامى.
> هل لك أصدقاء؟
- أتعرف على الأصدقاء أنفسهم المخادعين، منذ ربع قرن، قد يغيرون أسماءهم وهيئاتهم وأساليب خداعهم، لكننى لا أغير أبداً طريقة «انخداعى»، كما لو أننى فى حالة «ريبرتوار» سرمدية على غرار عقاب آلهة الأوليمب لتوأم روحى الخفى «سيزيف».
> ما هى اختيارات فى الحياة؟
- اخترت أن أكون «المرمى» لا الكرة، ولا الهداف
- اخترت أن أكون الهدف لا الرصاصة، ولا القناص
- اخترت أن أكون الأرض، لا الهواء ولا السماء
- اخترت أن أكون أنا هو أنا، لا أنت.. ولا هو
> ولماذا هذه الاختيارات الصعبة؟
- ربما لأننى لا أعرف من أنا؟، وأنا لا أحب أن أكون شبه الأشياء، لا أحب أن أكون «معروفاً» و«محفوظاً» و«واضحاً» و«مفهوماً»، لأننى لا أحب – وهذا هو السر الذى أخشى أن أبوح به دوماً، أن أكون «منتهياً».
> وماذا تريد من هذا العالم؟
-أريد أن أبقى
أريد أن أستمر
أريد أن أواصل
لا المعرفة أرشدتنى إلى سر الخلود، ولا التجربة أثبتت لى «دوام الحال»، الكل يتغير، والثبات عدم.
فكيف لى أن أبقى «هنا» على ضفة النهر العظيم.. فى المكان نفسه، تحت ظل الشجرة العتيقة، بمحاذاة الأفق الممتد، فى منتصف المسافة الغامضة بين نعومة الصمت وهسيس الحياة؟.
كيف لى أن أبقى، والنهر يتغير، والأماكن تتبدل، والأشجار تموت محترقة، ومختنقة، والأفق متخم بالأسمنت، والصوت يتأرجح بين نغمة ميتة وعاصفة من الضجيج؟.
أريد أن أبقى.
أعرف أن أحداً لن يجىء، وأن الأرض سوف تحافظ على دورانها، وأن شمساً سوف تشرق كل صباح، وأن كائنات سوف تولد، وسوف تذهب، وسوف يأتى غيرها ليذهب، ليذهب ويذهب، لكننى لا أريد أن أذهب.. ثمة شىء لا أعرفه يجعلنى أريد البقاء «هنا»، فى هذه الأرض المليئة بالحشرات والبشر، وسط نزعات الحروب والقتل والأطماع الصغيرة والكبيرة، فى ظل التحولات المذهلة والتغير الحتمى لكل العناصر.. أريد أن أبقى «هنا»، لأراقب ذبول الزهور، وتعفن الجثث، وجفاف الأنهار، وردم البحار، واحتراق الغابات، ودك الجبال، وأكل الرمال.. أريد أن أبقى «هنا» لأشاهد بعينى مصرع آخر طاغية
> لكن هل يتركك الطغاة لتبقى «هنا»؟
- لا أعتقد.
اعتراف مرآة:
صدقنى أيها الإمبراطور، إن أبشع مسخ يمكن للمرء أن يخشاه.. هو نفسه!
(من مسرحية «الإمبراطور جونز» ليوجين أونيل)





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة