يُقال أن الاعتراف بالحق فضيلة. وهذا الاعتراف يعنى ضمنياً أن الإنسان كان فى موقف ما على باطل، فلما تبين له الأمر، لم يركبه العناد، ولم يستذله الغرور، ولم يعقه الصلف عن الاعتراف بباطله، وحق الغير . وليس من المنطقى بحال أن يعترف الإنسان بالحق الذى عليه غيره، ثم يظل مستمسكاً بباطله، متشبثاً به تحت أى دعوى أو ذريعة . ولو ظل الإنسان متشبثاً بباطله لما كان هناك معنى لاعترافه بالحق. لأن المقصود بالاعتراف بالحق هو إفراغ النفس والعقل مما تحتويه من باطل، فالحق والباطل فى موقف واحد لا يجتمعان معاً فى عقل ووجدان واحد .
فمستحيل أن يؤمن الإنسان بالشىء ونقيضه فى آن واحد معاً . فلكى يدخل الحق المعترف به، لابد أن يخرج الباطل . والواقع أن الإيمان بالشيء ونقيضه قد وقع، لو صح ما نقلته جريدة الوطن المصرية، فى عددها الصادر الاثنين الموافق الخامس من مايو 2014 م، عن راشد الغنوشى، زعيم حزب النهضة التونسى، فى صفحتها الأولى. فقد نقلت عنه قوله، وهو عضو التنظيم الدولى للإخوان: "إنهم تصرفوا بطريقة صبيانية أفقدتهم الحكم، ونصحناهم لكن لا حياة لمن تنادى". وهو توصيف لاذع، لو خرج من غير الغنوشى، لاتهم بالكفر والزندقة، ومعاداة المشروع الإسلامى، ومناهضته. أما وأنه قد صدر عن الغنوشى، فلابد من الوقوف عنده، وتأمله، لأنه قد وصم تنظيمه، ومكتب إرشاده، بالصبيانية فى التصرف، والموات.
فمن المعروف أن الصبى هو من لم يبلغ سن الرشد العقلى بعد، ومن ثم فهو غير مؤهل للحكم على الأشياء والمواقف، وإن حكم فلا يعتد بحكمه، وهو من الأصل غير مسئول عن تصرفاته لا شرعاً ولا قانوناً، وإن سُئِل فإنه يُسأل باعتباره حدثاً، ويعاقب بمقتضى ذلك معاقبة الصغار. فإن وصفت تصرفات أناس تجاوزوا العقد السادس والسابع والثامن من العمر بهذا الوصف، فلا مناص من الحجر عليهم، ومنعهم من التصرف فى ممتلكاتهم، لفقدانهم الأهلية . والواقع أن هذا الوصف من الغنوشى لتصرفات الإخوان لا يفقدهم الحكم وفقط، وإنما يفقدهم الحكم والأهلية . ثم يذهب الغنوشى إلى وصفهم بالأموات الذين لا يسمعون، فقد ناداهم بالنصيحة، ولكن لا حياة لمن تنادى.
وأضافت الصحيفة، أنه قال خلال مداخلة مطولة باجتماع قادة التنظيم الدولى فى إسطنبول منتصف شهر إبريل 2014 : " بعد دعوة النظام السابق ـ يقصد نظام مبارك ـ القوى الوطنية للحوار، عقب انتفاضة 25 يناير، نصحت الإخوة فى مصر بعدم التجاوب معها، لأن هبة الشارع تزداد، وأية حلول وسط هنا أو هناك سيسقطها ميدان التحرير فوراً" . وهذه العبارة تدل دلالة واضحة، لا تقبل الشك، على تدخل التنظيم الدولى للإخوان، فى إدارة شئون البلاد منذ اللحظات الأولى. وهذا يقدح بلا ريب فى وطنية الجماعة، ومدى حفاظها على الأمن القومى المصرى . ثم تضيف الصحيفة أن الغنوشى قد استنكر تراجع الإخوان عن عدم خوض انتخابات الرئاسة 2012 م، قائلاً : " سارت عكس ما قالوا، وجرت الانتخابات وهيمنوا وحلفاؤهم على الأغلبية، ولم يراعوا للحظة باقى شرائح الشعب المصرى، ولم يأتمنوا أى طرف وعاشوا جو المؤامرة، وأرادوا أن يحكموا سيطرتهم على مفاصل الدولة" .
وما قاله الغنوشى كلمة حق فى مواجهة إخوانه، وليست فى مواجهة الجمهور العام. وما ورد على لسانه هو من دواعى الثورة التى ينكرونها على الشعب، ويسعون وسع الطاقة لإسقاطها. فقد استغل الإخوان وحلفاؤهم الدعاية الدينية فى الانتخابات البرلمانية أسوأ استغلال ممكن. واستغلوا استثماراتهم فى التفاعل مع الفقراء والمساكين طوال عمرهم إلى أقصى حد.
واستغلوا الفقر الذى ضرب بجذوره المتعفنة أطناب الأرض عن طريق المواد التموينية والنقود التى مدوا بها أيديهم إلى الفقراء وذوى الحاجة. فلما دانت لهم الأغلبية قلبوا للمجتمع المصرى ظهر المجن، وأقصوه عن المشاركة الفاعلة فى الحياة النيابية، واستغلوا الأغلبية العددية فى تمرير أو إيقاف ما يرغبون . وهم كما قال الغنوشى لم يأتمنوا أى طرف وعاشوا جو المؤامرة، لأنهم بحكم تواجدهم غير الشرعى فى المجتمع، والمطاردات الأمنية المتلاحقة لهم بهذا الاعتبار، فإنه يصعب عليهم الثقة فى غيرهم، أو ائتمانه على أسرارهم ومخططاتهم، ودائماً هم أسرى الشعور بالتوجس من الغير، وأن الكون كله يتآمر على كيانهم ووجودهم، وهذه النفس المريضة يصعب عليها، إن لم يكن مستحيلاً، أن تحكم دولة، وإنما فقط جماعة منغلقة تدير نشاطاتها تحت الأرض، وفى جنح الظلام.
ويستطرد الغنوشى بحسب الصحيفة: جاءنى الخبر، وكنت فى اجتماع مجلس الشورى بحزب النهضة، فقلت لنفسى وللمجتمعين، الله يعوض عليكم فى إخوانكم فى مصر، قرروا بهذه الخطوة سرعة نهاية تجربتهم، نصحناهم ولكن لا حياة لمن تنادى". وقد صحت نبوءة الغنوشى، وهى نبوءة مبنية على رؤية واضحة للمشهد السياسى، فهذه المقدمات تفضى إلى تلك النتائج، ولكن المستغرب مع هذه الرؤية استنكار النتيجة، وبدلاً من تسميتها ثورة شعب على نظام بهذه المواصفات سموها انقلاباً على الإرادة الشعبية. وقد لفت الغنوشى، بحسب الصحيفة، إلى أنه قال للإخوان خلال جولة الإعادة على انتخابات الرئاسة: "أتمنى عليكم أن تنسحبوا من المعركة، وافتحوا المجال للرجل الذى حصل على الترتيب الثالث ـ يقصد حمدين صباحى ـ لينافس مرشح النظام ـ يقصد أحمد شفيق ـ وادعموه بكل قوة وأنا على ثقة بأن النتيجة ستكون ساحقة، حتى أصبح من الإخوان رئيس، والرئيس يعمل فى مكتب الإرشاد" . دعك مما قد تحمله هذه الفقرة من رسالة مشفرة للإخوان بشأن الانتخابات الحالية، فهى لا تخفى على العين الفاحصة .
وانظر إلى الفقرة الأخيرة التى تحمل فى طياتها أسباب كفيلة إن توفرت بخلع هذا الرئيس المرؤوس. لأن محمد مرسى لم يكن رئيسًا، وإنما مندوب الإخوان فى قصر الرئاسة. فلما النعى على الشعب المصرى ثورته؟ وها هى أسبابها تترى. ثم تنقل الصحيفة عن الغنوشى وصفه للجدل المحتدم حول ما حدث يوم 30 يونيه بأنه جدل : " مقيت " . حيث قال : "حصل ما حصل، لكنى أسألهم أليسوا مسئولين عن هذا الانقلاب، ألم يحظ الانقلاب بحاضنة شعبية فاقت أضعاف ما حصلوا عليه من أصوات فى انتخابات الرئاسة؟ " . نعم يا أخ راشد.
ولكن هل يليق واقعياً وفكرياً أن تسمى هذا المشهد انقلاباً، أى انقلاب هذا الذى يحوز تأييد أفراد فاقت أعدادهم أضعاف ما حصل عليه مرسى من أصوات ؟ .
إذن فهو انقلاب شعبى قد سُقت أسبابه، أيده الجيش . الحاضنة الشعبية له تفوق أضعاف الحاضنة الشعبية لنظام الإخوان . ويبدو أن الغنوشى قد اشتم فى كلامه رائحة تأييد للانقلاب، فاستدرك قائلا: لا تفهمونى خطأً، أنا ضد الانقلاب، وأطالب بالرجوع عنه، لكن هذا من الماضى، وعلى الجميع استخلاص العبر، خاصة على ضوء محاولتهم اللجوء لتنظيمات جهادية وسلفية لمساعدتهم فى مواجهة العسكر" وهكذا جمع الغنوشى بين المتناقضات انتصاراً لتوجهه الأيديولوجى، فقال بالحاضنة الشعبية، وقال بالانقلاب، وهما لا يجتمعان معاً . كما قال أنه ضد الانقلاب الذى يتمتع بالحاضنة الشعبية، ومع شرعية إخوانه الفاقدين للحاضنة الشعبية، وهما أيضاً لا يجتمعان معاً . ويبقى السؤال : كيف يتسنى لكم إطلاق مصطلح الانقلاب على حركة جماهيرية عارمة احتضنها الجيش وحماها من بطش جماعتكم وهمجية تصرفاتها ودموية تفكيرها وسُقم وجدانها وعجز إدراكها؟ .
راشد الغنوشى زعيم حزب النهضة التونسى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة