خلع سمته الوقور، متناسيًا سنواته الستين، والأعباء المنوطة به كمثقف كبير، ودخل علينا ورشة العمل البحثى وهو يتمايل طربًا، فيما يسند «كرشه» بإحدى يديه، ويفرقع بأصابع اليد الأخرى فى الهواء، مرددًا كلمات أغنية جديدة لنانسى عجرم.
كنت مع ثلاثة من كبار المثقفين العرب نُقلّب فى جثث عدد من القضايا التى قتلت بحثًا فى حادث الصدام الحضارى الشهير بين الشرق والغرب، ولما دخل المثقف المهيب فى هيئته «التجديدية» المستوحاة من عوالم «الفيديو كليب» بدا فى حالة «ميكس» بين شكله «الكلاسيكى/الجامد» وسلوكه «المتحرر/المبتذل»، وقلت فى سرى «رب صدفة خير من ألف ترتيب»، فالمثقف المزدوج يبدو لى كأنه فى وصلة «بيرفورمانس» لإثبات إمكانية المصالحة بين طرفى معادلة «الأصالة والمعاصرة»
أو تبنى كلمات وأداء نانسى لتحليلها حسب أحدث النظريات النقدية، فالتفكيكية، وما بعد الحداثة تتسع لكل شىء، بل أنها تعلى من شأن الانتهاك والابتذال، كأدوات لتحطيم القيم الكلاسيكية المتعفنة التى أوصى نيتشة بتدميرها بمطرقته الفلسفية.
المدهش أن أحدًا منا نحن الأربعة الموجودون بالغرفة لم يشعر بالدهشة، كما لم يشعر المثقف المهيب بالخجل، إذ يبدو أن الأشياء كلها‑ قديمها وجديدها‑ لم تعد صالحة لإثارة الدهشة فى «زمن العجب» الذى نعيشه، لذلك استمر المثقف الرصين فى وصلة «الخلاعة»، مشيرًا إلينا بضرورة الاستعداد الفورى للانتقال إلى حيث «يحلو السهر» فى ضيافة مثقف كبير آخر أعد للمدعوين ما لذ وطاب من الطعام والشراب.
حاولت الاعتذار، ففوجئت بحملة استنكار واسعة كادت تثبت على بالأدلة الدامغة تهم «التخلف» و«الجمود»، والوقوع تحت تأثير الجماعات السلفية المتشددة التى تحاول أن تنزع عن ديننا الحنيف سماحته ويسره!
لم يكن الأمر يحتمل فتح أبواب مناقشة عقيمة لأن «أبونواس» كان قد نجح فى إزاحة «أبوتمام»، وسيطر على الموقف برمته، ولم يعد هناك مجال لعقل أو منطق، فخرجت مع الضيوف الكرام بلا مزايدات أو كلام،‑ على أن أنسحب بهدوء بعد وقت قصير، لكن ذلك الوقت القصير كان كافيًا، للتعرف على أحدث أخبار النميمة فى الوسط الثقافى من الماء إلى الماء، كما كان كافيًا للتعرف على فوائد الطعام والشراب، والمتع الحسية الأخرى.
«عادى.. عادى جداً».. هكذا قال لى صديق فى اليوم التالى بعدما أخبرته عن «المثقف العجرمى»، و«شلة أبونواس»، وعندما حاولت أن أشرح خطورة الأمر من وجهة نظرى شمر الصديق عن كلماته مظهرًا رغبة فاشية فى حسم النقاش بالضربة القاضية، ولكمنى قائلاً: وماذا فى ذلك؟.. ألم تشرب يومًا؟.. ألا تعرف آخرين من صغار المثقفين يشربون؟.. فلماذا التهجم على الكبار فقط؟!
لم أرد، لأننى لم أسع من الأساس إلى مبارزة كلامية، كنت أريد أن يلتفت الصديق إلى المأزق الداخلى لكبار المثقفين العرب.. يبدو أن ثمة مشكلة نفسية عميقة تهدد استقرارهم ومصالحتهم مع أنفسهم، بحيث لا تعكس تصرفاتهم إحساسًا بالرضا عن الذات، أو رغبة فى التنفيس عن مكبوتات، بقدر ما تعكس حالة من الاستسلام للسائد، ورغبة فى الهروب من قيود مهام لا يحبونها، ولا يؤمنون بها بما يكفى، لكنها مع ذلك تحقق لهم قدرًا من الوجاهة الخارجية التى يصعب الاستغناء عنها فيمارسونها علنًا فى الصباح
وأمام العيون المفتوحة، لكنهم فى الليل يخلعون الأقنعة، ويتحولون إلى كائنات أخرى أقل تحضرًا من النماذج التى كانوا ينفذونها فى الصباح، بما يعيد للأذهان التماثل الشائع بين المثقف العربى وقصة «دكتور جيكل ومستر هايد».
نعم هناك من يشرب يومًا، وهناك من يشرب دومًا، وهناك من يعتبر الركاكة والتبذل استراحة محارب استعدادًا لمعركة جديدة.. ويمكن أن يظل الأمر فى حدود الحرية الشخصية والسلوك الفردى، لكن المخيف أن نسكت ونحن نرى أعراض «مرض وبائى» تظهر على شخصيات تتعامل مع ملايين العقول، ويصل تأثيرها إلى كل مكان، وبصرف النظر عن ازدواجية المثقف العربى ومعاناته مع الفصام بين القول والفعل، يجب أن ندرك أن ثمة حدًا أدنى للمغامرات «الإمبريقية» للمثقف حتى لا تنقطع الشعرة بين «الإبداع والجنون»، أو «الإبداع والجريمة»، أو«الإبداع والشذوذ والتهتك»، وهو ما عانى منه مثقفون ومبدعون كبار فى العالم كله، فانتهت رحلة إبداعهم، بل رحلة حياتهم ذاتها، بسبب ذلك السقوط الذى نتج عن تحولهم من أسياد يمتلكون ذواتهم إلى عبيد يلهثون خلف رغبات تلك الذات مهما كانت وجاهة المبررات التى يلوكونها.
ذلك هو الفارق الذى أدهشنى بين أوسكار وايلد وآرثر ميللر.. الأول أكلته الفضائح المشينة، والآخر وصلت به الجرأة وقوة الشخصية إلى درجة ربما نلومه عليها جميعًا.. لقد قام ميللر بطلاق مارلين مونرو، الأنثى التى مازالت صورتها حتى الآن تستعبد ملايين الرجال على الأرض!
ها أنا أضع نفسى مرة أخرى فوق المنصة، وأبدو كما لو أننى استسهلت توجيه المواعظ الأخلاقية للجميع، وهذا أمر لا أحبه ولا أجيده، لأننى أعرف مقدار ضعفى، وأؤمن بمقولة أوسكار وايلد: «إن أسهل وسيلة لمقاومة الإغراء هى الخضوع له، وليس تحديه»، لذا لم أكن أستطيع أن أهجر امرأة مثل مارلين، وربما لهذا السبب لم أسع للزواج منها، كما لم أسع للزواج من السلطة‑- أى سلطة-‑ لأننى لا أحب أن أتيح للآخرين استغلال ضعفى
وأؤمن أن قوة الإنسان- أى إنسان‑- تكمن فى قدرته على معرفة ذاته، وبالأساس نواقصه ليتجنبها وفق القول المأثور «رحم الله امرئ عرف قدر نفسه»، وأعتقد أن نقطة الانطلاق الصحيحة للبناء المعرفى عند أى مثقف هى معرفته ذاته وتهذيبها فى مهمة «الجهاد الأكبر»، قبل أن يتحول إلى مجرد خزانة للمعرفة يتجاور فى باطنها الكأس، والورق، والكلمات، والحشرات القارضة.
* إذا لم نستطع فى بعض الظروف أن نغير ما يحدث، فلنحاول أن نفهم ما يحدث. «جلال أمين»
جمال الجمل يكتب : ازدواجية المثقف بين نانسى عجرم ومارلين مونرو قطة الانطلاق الصحيحة للبناء المعرفى عند أى مثقف هى معرفته لذاته وتهذيبها فى مهمة الجهاد الأكبر
الأحد، 04 مايو 2014 06:10 ص