بلا شك أن مصر بالكامل وقفت على أطراف أصابعها، كاتمة أنفاسها، مترقبة تلك اللحظات الثقيلة التى تمر بها خلال فترات التصويت، التى امتدت على مدار ثلاثة أيام، فالانتخابات الرئاسية المصرية لم تكن كأى انتخابات عادية، بل كانت انتخابات استثنائية بحكم الظرف التاريخى الذى تمر به البلاد، حيث الإرهاب الإخوانى من ناحية، والضغوط الدولية وأجواء التوجس والتشكيك التى سادت علاقات مصر الدولية من ناحية أخرى. فضلاً عن الفتاوى السياسية التى أصدرها القرضاوى وتابعيه من خلال الكيان المشبوه المسمى الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين. بالإضافة إلى المجموعات الشبابية التى ترفض خارطة المستقبل لمجرد الرفض وسرت بينهم العدوى وتفشت تفشياً سرطانيا بين قطاعات عريضة منهم. زد على ذلك تلك الفئات الليبرالية التى تسعى سعياً حثيثاً لنقل النموذج الغربى نقل مسطرة، وتقيس عليه ما يحدث فى مصر. كل ذلك مخلوطاً بتدنٍ فى الخدمات، وتردى الأعمال، وموجة الارتفاع الحاد فى الأسعار، والحديث غير المبرر عن رفع الدعم عن السلع الاستراتيجية. ثم جاءت درجات حرارة الجو لتستكمل المشهد الممحص للمواطن المصرى.
كل هذه العوامل مجتمعة لو اجتمعت على أبناء شعب آخر لما كانت هناك انتخابات ولا يحزنون. إلا أن الشعب المصرى مختلف، جيناته تحمل عبق السنين الضاربة بجذورها فى أطناب التاريخ الإنسانى، منذ عرف للإنسان تاريخ. راهن الإخوان على خوفه من الإرهاب، فأرهبوه، فإذا به ينزل إلى الشوارع بصدور عارية، ويصطف فى الطوابير معلناً التحدى. واجه الإرهاب الإخوانى بالرقص والغناء أمام اللجان.عبثت قوى دولية عديدة بمقدراته، قصفت عقله بحملات منظمة تستهدف غسله من وعيه بأن ما قام به كان ثورة، وأنه مجرد انقلاب عسكرى مدعوم من فلول نظام مبارك، وسخروا فى سبيل ذلك وسائل إعلام مقروءة ومسموعة ومرئية، فإذا بهذا الشعب العبقرى يسخر من كل ذلك، ويلفظه بوعى غير مسبوق، فأصاب هذه القوى بالصدمة والدهشة. وعجزت عن تفسير المشهد المصرى بمقاييسهم المعتادة، وجهلت هذه القوى أن الشعب مصر لم يكتشف له "كتالوج " يمكن التعامل معه من خلاله، أو العبث بمكوناته. وقد عزف القرضاوى وأتباعه على نغمة الدين التى طالما عزفوا عليها، وكانت تؤتى أكلها مع الشعب المصرى المتدين بفطرته، فأفتى بحرمة الانتخاب، فذهبت فتواه أدراج الرياح، ولم تجد لها فى نفوس المصريين من صدى. ذهبت مع ذهاب الإخوان بعدما طوى الشعب المصرى وجودهم بالصناديق، وأفقدهم بها شرعية الكلام وشرعية الحركة وشرعية ارتداء أردية الدين ومسوحه. وقال لهم إن كنتم تؤمنون بالله ورسوله، فلا ريب أنكم تؤمنون بالقرآن، والقرآن كلام الله، والله نزع الملك عن مرسى نزعاً، وآتاه للسيسى لو كنتم مؤمنين.
أما المجموعات الشبابية الرافضة والمحتجة والثائرة بدعوى عودة الحكم العسكرى، أو عودة فلول مبارك، فقد غاب عن هذه المجموعات أنهم أبناء لتلك المرحلة الفاسدة الفلولية، تربت على أيديها، ونبتت أجسادها من فسادها، وتنفست عفن تلك المرحلة، فهم ليسوا أبناء سفاح، ولا استيراد الخارج، فلا معنى إذن لتلك النغمة المتعالية المتأففة التى يجابهون بها جيل الآباء والأجداد، فما كنت لو لم يكونوا، ولا ثرت لو لم يبذروا فى أحشائك بذور الثورة، ويغرسوا فى عقلك فسيلتها، فمعهم عشت، وبهم تأثرت، وراثة فى جيناتك، وبيئة فى تصرفاتك وأخلاقك وثقافتك. وجحودك لا ينفى هذا الواقع، بل سيظل معك فى بؤرة شعورك وهامشه، يطاردك أينما وحيثما كنت. وإن أنكرت فضل أسرتك وتربتك ومحيطك فأنت لوطنك مصر أنكر، ومن ينكر وطنه فهو خائن بلا ريب، وقابل للبيع والشراء فى سوق النخاسة. أما الفئات الليبرالية اللاهثة المتهافتة فقد غاب عنهم أن ليبراليتهم إن لم تخدم الوطن فلا خير فيها، فليس من المطلوب تغريب مصر بنقلها إلى الثقافة الغربية بحلوها ومرها لأننا سنكون حينئذ عبيد لتلك الثقافة وخدام لها، وإنما المطلوب تمصير الغرب بثقافته، بعد أن ننتقى منها ما ينفعنا ونلفظ ما يتنافى مع قيمنا وتقاليدنا وديننا. وحين نوظف أوجاع الشعب المصرى لخدمة التغريب، والمتاجرة بهذه الأوجاع على كل الموائد بما فيها موائد القمار وأطايب الطعام، فإننا بذلك نبيع أنفسنا بثمن بخس دراهم معدودة. أما الحديث عن رفع الدعم فى ظل تلك الظروف الإنتخابية فلا ريب أنها لعبة خبيثة كانت تستهدف القدح فى أحد المرشحين بقصد النيل منه وإحراجه سياسياً. فمن قائل أنهم أرادوا إعفاءه من الحرج أمام ناخبيه حال فوزه، إلى قائل بأن تلك ملامح المرحلة القادمة لو فاز هذا المرشح. وأنا أرى أنها كانت سكباً للبنزين على النار حتى ولو كان دافعها حسن النية. فى هذه الأجواء المكفهرة جرت الإنتخابات المصرية باعتبارها الإستحقاق الثانى فى خارطة المستقبل. وانتخبت مصر رئيساً لها، رغم التحديات والمراهنات والمزايدات، انتخابات فى ظل رقابة دولية ومحلية، ومتابعة لحظة بلحظة بكاميرات التلفزة فى مرحلتى التصويت والفرز. والغناء والرقص أمام اللجان بعفوية تنفى مزاعم الاضطهاد والقهر والتسلط التى تطلقها أبواق الإخوان والقوى المناوئة. دون ضغوط مادية من خلال الزيت والسكر والمواد التموينية. ودون ضغوط معنوية من خلال التخويف بالجنة والنار. اختار رئيسه بملء إرادته عن قناعة بأن الرئيس السيسى هو رجل المرحلة القادر على قيادة البلد محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً.
أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة