لكأنه بيننا الآن، يدرك جيدًا حجم اللحظة الراهنة والفارقة فى تاريخنا، كنا نردد أبياتًا من أشعاره على مدار ثمانية عشر يومًا فى ميدان التحرير، والآن نراه معنا فى ذكرى ميلاده نتذكر معه مواعظه، ورسائله ونسمعه يقول لنا:
يا أهل مدينتنا
هذا قولى
انفجروا أو موتوا
رعبٌ أكبرُ من هذا سوف يجىء
لن ينجيَكم أن تعتصموا منهُ بأعالى جبل الصمت.. أو ببطون الغابات
لن ينجيَكم أن تختبئوا فى حجراتكمو
أو تحت وسائدِكم.. أو فى بالوعات الحمّامات
لن ينجيَكم أن تلتصقوا بالجدران
إلى أن يصبح كل منكم ظلاً مشبوحاً عانقَ ظلاً
لن ينجيَكم أن ترتدُّوا أطفالاً
لن ينجيَكم أن تقصر هاماتكمو حتى تلتصقوا بالأرض
أو أن تنكمشوا حتى يدخل أحدكمو فى سَمِّ الإبرة
لن ينجيَكم أن تضعوا أقنعة القِرَدة
لن ينجيَكم أن تندمجوا أو تندغموا
حتى تتكون من أجسادكمُ المرتعدة
كومةُ قاذورات
فانفجروا أو موتوا
انفجروا أو موتوا
لكأن ما قاله "سعيد" بطل مسرحية "ليلى والمجنون" فى "يوميات نبى مهزوم يحمل قلماً، ينتظر نبى مهزوم يحمل سيفاً" بمثابة الرسالة المنجية الموقظة لنا نحن أبناء هذا الشعب، تحثه على الثورة دائمًا، وعدم النخوع، وصناعة الديكتاتورية.
تحل علينا الذكرى الــ83 لميلاد واحد من أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربى ومن رموز الحداثة العربية المتأثرة بالفكر الغربى، كما يعد واحداً من الشعراء العرب القلائل الذين أضافوا مساهمة بارزة فى التأليف المسرحى، وفى التنظير للشعر الحر، وهو الشاعر محمد صلاح الدين عبد الصبور يوسف الحواتكى، وعرف باسم صلاح عبد الصبور، ولد فى 3 مايو 1931 بمدينة الزقازيق.
التحق عبد الصبور بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، وذلك عام 1947، وفيها تتلمذ على يد الشيخ أمين الخولى الذى ضمه إلى جماعة الأمناء التى كونها، ثم إلى الجمعية الأدبية التى ورثت مهام الجماعة الأولى، كان للجماعتين تأثير كبير على حركة الإبداع الأدبى والنقدى فى مصر.
وتعرف عبد الصبور على أصدقاء شباب، عندما كان يجلس على مقهى الطلبة فى الزقازيق، وكان منهم مرسى جميل عزيز، وعبد الحليم حافظ، وطلب عبد الحليم حافظ من صلاح أغنية يتقدم بها للإذاعة وسيلحنها له كمال الطويل فكانت قصيدة لقاء تخرج صلاح عبد الصبور عام 1951.
وبعد تخرجه من كلية الآداب عين مدرسا فى المعاهد الثانوية ولكنه كان يقوم بعمله عن مضض حيث استغرقته هواياته الأدبية.
ترك عبد الصبور بعد تخرجه من الكلية الشعر التقليدى، ليبدأ السير فى طريق جديد تماماً تحمل فيه القصيدة بصمته الخاصة، فعل ذلك للبناء وليس للهدم، فأصبح فارس الشعر الحديث.
بدأ عبد الصبور ينشر أشعاره فى الصحف واستفاضت شهرته بعد نشره قصيدته شنق زهران، وخاصة بعد صدور ديوانه الأول "الناس فى بلادى" عام 1957 هو أول مجموعات عبد الصبور الشعرية، كما كان أيضا أول ديوان للشعر الحديث أو الشعر الحر يهز الحياة الأدبية المصرية فى ذلك الوقت.
ومن مؤلفاته الشعرية أيضاً "أقول لكم، تأملات فى زمن جريح، أحلام الفارس القديم، شجر الليل، الإبحار فى الذاكرة".
وقام عبد الصبور بتوظيف نمط شعره الجديد فى المسرح فأعاد الروح وبقوة فى المسرح الشعرى، وتميز مشروعه المسرحى بنبرة سياسية ناقدة لكنها لم تسقط فى الانحيازات والانتماءات الحزبية.
ومن مؤلفاته المسرحية "الأميرة تنتظر، بعد أن يموت الملك، مسافر ليل، ليلى والمجنون، مأساة الحلاج". كما كان لعبد الصبور إسهامات فى التنظير للشعر خاصة فى عمله النثرى، وكانت أهم السمات فى أثره الأدبى استلهامه للتراث العربى وتأثره البارز بالأدب الإنجليزى.
ومن أعماله النثرية "على مشارف الخمسين، وتبقى الكلمة، حياتى فى الشعر، أصوات العصر، ماذا يبقى منهم للتاريخ، رحلة الضمير المصرى، حتى نقهر الموت، قراءة جديدة لشعرنا القديم، رحلة على الورق".
تأثر إبداع عبد الصبور بعدد من المصادر فمن شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة العربى، مروراً بسير وأفكار بعض أعلام الصوفيين العرب مثل الحلاج وبشر الحافى، كما استفاد من منجزات الشعر الرمزى الفرنسى والألمانى عند "بودلير، وريلكه" والشعر الفلسفى الإنجليزى وغيرهم الكثير، ليكتب باقتدار مجموعة شعرية نادرة من صهره لموهبته ورؤيته وخبراته الذاتية مع ثقافته المكتسبة من الرصيد الإبداعى العربى ومن التراث الإنسانى.
تقلد عبد الصبور عددا من المناصب، وعمل بالتدريس وبالصحافة وبوزارة الثقافة، وكان آخر منصب تقلده رئاسة الهيئة العامة للكتاب، وساهم فى تأسيس مجلة فصول للنقد الأدبى.
كما حصل عبد الصبور على جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية "مأساة الحلاج" عام 1966"، وحصل بعد وفاته على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1982، والدكتوراه الفخرية فى الآداب من جامعة المنيا فى نفس العام.
وفى 13 أغسطس من العام 1981 رحل الشاعر صلاح عبد الصبور إثر تعرضه إلى نوبة قلبية حادة أودت بحياته، اثر مشاجرة كلامية ساخنة مع الفنان الراحل بهجت عثمان، فى منزل صديقه الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى، وكان عبد الصبور يزور حجازى فى منزله بمناسبة عودة الأخير من باريس ليستقر فى القاهرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة