نقلا عن اليومى..
بين وقت وآخر تنمو لبذور الفتنة الطائفية أشواك سامة، فيما تقف الدولة عاجزة عن اجتثاثها، ومن ثم لا يجد المتنازعون سبيلا سوى اللجوء إلى القضاء العرفى مثلما حدث بفتنة الخصوص، المأساة التى أظهرت تهافت الدولة، وعدم قدرتها على التصدى لوحش صار أشبه ما يكون بالتنين فى القصص الأسطورية، يخرج من كهف مظلم، فينفخ النار.
أحد عشر ألف قاض، وأجهزة أمنية متعددة، و175 ألف محام، لكن المحاكم العرفية ما تزال تحكم ويلتزم الناس بما تقضى به، كما حدث فى مجالس الصلح بالصعيد وأسوان وأطفيح والصف، ومازال يحدث فى الخصوص، حيث تناقش المحاكم العرفية الأزمة بعيدا عن النيابة والقضاء.. أى بعيدا عن دولة أصبحت «فص ملح وداب».
وتتسم أحكام القضاء العُرفى بأن لها قوة الإلزام، وفى كثير من الأحيان تكون موثقة من الجهات الأمنية والرسمية، وتلجأ إليها الدولة أحيانا لفض المنازعات بين العائلات الكبيرة، للقضاء على الثأر «خاصة إذا كانت الجلسة العرفية ستؤدى إلى تصالح»، كما تعتبر منظومة القضاء العرفى فعالة جدا إذا كان المعتدى عليه يرضى بالتعويض المالى والاعتذار.
«اليوم السابع» ذهبت إلى بعض القرى محل الفتن للتعرف على طبيعة تلك المجالس، والقواعد التى تحكمها، ومدى تجاوب الأهالى معها، ومدى تعارضها مع سلطة الدولة.الخصوص.. القتنة متكررة
بعد عام من ذكرى أحداث «الخصوص» وفى نفس الشهر «إبريل» تكرر نفس المشهد مرة ثانية، مشاجرة بين مسلم وقبطى، تطورت إلى اشتباكات سقط على إثرها ضحايا حتى قام المجلس العرفى بحل المشكلة على طريقته الخاصة بمباركة رجال الأمن والحكومة.
الحاج «سالم العابدى»، من كبار عائلات «الخصوص»، وعضو بالمجلس العرفى فيها، قال: «قدر المجلس فى العام الماضى مبلغا وقدره 600 ألف على إحدى العائلات، إلا أن أهالى الشاب القتيل ويدعى «ماهر» تنازلوا عن مبلغ «الدية» حرصا على العلاقات بين المسلمين والأقباط».
وأضاف «العابدى»: عقدنا وقتها مؤتمرا باسم الوحدة الوطنية بمجمع مدارس «الخلفاء الراشدين» بحضور القيادات التنفيذية فى ذلك الوقت، ومنهم الدكتور عماد عبدالغفور المستشار السابق للرئاسة والمحافظ ومدير الأمن ووفد من الأزهر ووزارة الأوقاف والقس «سوريال يونان» راعى كنيسة مارى جرجس بالخصوص والقس «يوحنا فؤاد» راعى كنيسة «مارى مينا» وعدد من قيادات المجالس العرفية بالخصوص على رأسهم الحاج «حسن أبورجب» و«كامل فريد» و«سيد النوسى» ومن الإخوة الأقباط «عطا رفلة»، و«راضى رفلة»، و«كمال زكى»، و«نعيم العربى».
وأشار «العابدى» إلى أن المجلس استطاع أيضا منذ عدة أيام عقد جلسة صلح بين الطرفين المسلمين والأقباط فى حادثة «الزرايب»، لافتا إلى أن قوة المجلس العرفى ليست فقط فى مشاركة ممثلين عن كبار العائلات بالمنطقة، ولكن فى انتماء هذه العائلات للقبائل العربية، حيث يجمعها مجلس واحد هو مجلس القبائل العربية، ونستطيع من خلاله حل الكثير من المشاكل التى يصعب على الأمن التدخل فيها مثل قضايا الثأر.
وعن إجراءات الجلسة العرفية قال «العابدى»: «تتم إجراءات التصالح أمام الجميع، وتبدأ عادة بتحرير شيكات بمبالغ مالية كبيرة على أطراف المشكلة كضمان للموافقة على حكم المجلس ولا يتدخل فى جلسة الحكم الأمن أو الأجهزة التنفيذية، ويتم الاستماع للشهود وأطراف المشكلة ويقع على المعتدى تعويض «الدية» للأرواح والتعويض المادى للإصابات، ويتم التنفيذ خلال 60 يوما، وبعدها يزور الطرفان المتخاصمان بعضهما لإثبات عدم وجود أى ضغينة وهو شرط أساسى للصلح.
وعلى مدخل شارع رئيسى ظهرت أسوار الكنيسة «الشهيد مارى جرجس» التى التقينا فيها بخدام الكنيسة الذين استنكروا وصف ما حدث بالفتنة الطائفية، مؤكدين أن من قام ببناء الكنيسة هم المسلمون، وأنهم يحرسونها بشكل دائم، لافتين إلى أن الكنيسة يحيطها 30 فدانا من عشش الصفيح يسكنها المئات من الأسر المسلمة والقبطية، وأنهم يعملون فى مهنة واحدة وهى جمع وفرز القمامة منذ عشرات السنين.
وقالوا إن ما حدث مؤخرا لا يعدو كونه مشاجرة بين شابين أحدهما مسلم والآخر قبطى، مرجعين ذلك إلى عدم فرض الأمن لسيطرته وتوافر السلاح بدون أى ضوابط، مشيرين إلى أن مشاكلهم يقومون بحلها بأنفسهم من خلال لجنة دائمة للصلح تضم عددا من كبار أهالى المنطقة تجتمع بصفة مستمرة.
وقال الحاج «محمد الحضرى»، أحد كبار أهالى المنطقة: كلنا بنكمل بعض فى منطقة «الزرايب»، ومافيش حاجة عندنا اسمها فتنة طائفية، وأنا من مواليد عام 1955 وعشت صغيرا فى هذه المنطقة عندما كان عمرى 8 سنوات عندما بدأت العائلات المسلمة والقبطية بجمع وفرز القمامة، حيث عشنا سويا، حتى إن أخى الصغير أرضعته إحدى جاراتنا القبطية لمدة عامين فأصبحنا إخوة فى الرضاعة كما يقال.
وأضاف: «نحن أبا عن جد بنكمل بعض وقمنا ببناء المسجد الكبير الذى يقع على بعد أمتار من الكنيسة على يد إخواننا الأقباط واستكملنا بناء الكنيسة أيضا بأيدى الجميع لا فرق بين مسلم أو قبطى على مساحة 2000 متر».
وعن المجالس العرفية قال «الحضرى»: «لجنة الصلح التى قمنا بتأسيسها منذ فترة تساعد فى حل الكثير من المشاكل وتضم الرموز من المسلمين والأقباط، وحكمها يلزم الجميع والمشاكل بدأت فى الزيادة بعد انشغال الأمن بمشاكل الإرهاب، فظهرت مجموعات كبيرة من البلطجية يحملون السلاح الذى بدأ ينتشر أيضا بين الشباب الصغير السن، ومن ناحيتنا من خلال لجان الصلح نقوم بالضغط على كبار العائلات للسيطرة على شبابهم ونتطلع إلى عودة الأمن مرة ثانية ليجمع هذا السلاح».
«صول» تقود المنطقة
الأمر لا يختلف فى الخصوص عنه فى قرية «صول» مركز «أطفيح»، فبعد حدوث فتنتها الأشهر عام 2011، شُكِّل مجلس عرفى من كبار عائلاتها وعلى رأسهم عمدتها «محمود عبدالعليم محمد غيث» وتحت رعاية الأمن تم إخمادها.
ويوضح «محمد غيث» عضو المجلس العرفى ذلك فيقول: «يستمد المجلس العرفى فكرته من قديم الزمن، مستندا إلى الأحكام الشرعية والعرف السائد لكل قرية، حيث يرشح كبير كل عائلة ويعتمد كعضو، وتختار الأطراف المتنازعة مُحَكمين على أن يكون عددهم فرديا إما 9 وإما 11 عضوا حتى يتسنى للمجلس حسم الحكم بالعدد الفردى». وعن خطوات فض النزاع أضاف غيث: «المجلس والشرطة يد واحدة فى تهدئة الفتن وحسم النزاع، يقوم المجلس بعمل جلسته، فيجتمع المحكمون بطرفى النزاع كل على حدة، ثم يأتى الشهود، ثم يجتمع أعضاء المجلس بمفردهم بغرفة المشورة قبل إصدار الحكم على الطرف المعتدى».
وأضاف: «حدثت فتنة «صول» بسبب الشباب المتطرف الذى أشعل الفتنة بسبب فتاة مسلمة وشاب مسيحى، تطورت إلى هدم الكنيسة وإحراقها دون خسائر بشرية، وقد كان للمجلس العرفى الفضل فى تهدئة الأمور، حيث تحدثنا مع عقلاء القرية واستطعنا نقل الإخوة المسيحيين بأمتعتهم إلى أماكن لا يعرفها غيرنا، وتم تجاوز الأمر دون قتل أحد، ثم قمنا بإبلاغ الشرطة، وكان هذا نجاحا كبيرا، وقد انحصر دور الشرطة العسكرية فى حماية الكنيسة أثناء وبعد البناء إلى أن خمدت الفتنة تماما».
وقال «غيث»: دور الشرطة يظهر فى الفتن والقتل والأمور الخطرة، وفيما عدا ذلك من مشاكل بسيطة، يعالجها كبار العائلات مع عمدة القرية ليتم تدارك الأمر. وأكد «محمد عبدالعليم الشوربجى» ممثل عائلة «الشوربجى» أن دور الشرطة يقتصر على عمل المحضر وتحويله للنيابة وضبط المتهمين، مضيفا: «ببلدنا المكونة من 11 عائلة، هناك اثنان أو أكثر مشهود لهم بالعدالة والوجود الاجتماعى، يقومون بحل المنازعات التى تنشب بالقرية ويتم ذلك بتراضى الطرفين المتنازعين، وهذا يسهل مأمورية الشرطة فى إخماد الفتن والخلافات، حتى إذا وصلت إلى الشرطة، يتم الصلح بمحضر عرفى موثق بالمحكمة ويتم إرفاقه بالقضية، وهناك عدة مجالس عرفية كان من بينها صلح قريب بين عائلتين بتدخل رجال التحكيم العرفى بمركزى الصف وأطفيح».
«أحمد طه عبد العظيم طه» ممثل عائلة طه بـ«صول» قال: «يتم انتدابنا من قبل مديريات الأمن للمساعدة فى القضاء على المشاكل الناشبة، وإتمام المصالحات فى جرائم الثأر، كما حدث بمراكز الصف وأطفيح والبدرشين والحمودية والواسطى ببنى سويف، وما تتميز به «صول» هو القضاء على الفتنة فى مهدها، ويحدث هذا مجانا دون مقابل».
وعن المشاكل التى تقابل المجلس قال أبو الخير: «تلتزم العائلتان بالتعويضات المفروضة عليهما من قبل جلسة التحكيم ويتم دفعها على مرة واحدة أو يدفع نصف المبلغ قبل تحرير إيصالات أمانة بنصفه الآخر».
من جانبه قال طارق الشوربجى: «يوجد ضامن لكل طرف من أطراف النزاع يضمن عدم التعدى على خصمه حتى يوم التحكيم العرفى، وفى حالة رفض التحكيم يتم بذل مساع لإقناع الرافضين بالقبول».
الكداية والودى
«محمد عبدالمعبود حسانين»، عمدة قرية «الكداية» بأطفيح، وعضو محكم بالمجالس العرفية بمركز الصف وأطفيح قال: المشاكل أنواعها كثيرة، منها ما هو ناتج عن التعاملات المالية بين الناس وبعض المشاكل القبلية، بعد الثورة أصبحت المجالس العرفية هى الأساس، والعمدة يفهم طبيعة الناس، بينما لا يعى ذلك المحامى مثلا، الذى يستطيع الحصول لموكله على حقوق ربما لم تكن له فيؤدى إلى تفاقم المشكلة.
وأضاف: «عدد المحكمين بالمجلس العرفى من 8 - 10 أشخاص، والعمدة بتاع القرية مرجح، أشهر المحكمين بالمراكز الحاج «صفوت عبدالمعبود حسنين» أخو عمدة الكداية، «حسانين أحمد هلول»، والحاج «إبراهيم بكرى عامر».
وأضاف: «الأمن يرى أن المجالس العرفية لها دور كبير فى حل المشاكل بين الناس، ونشر الأمن والأمان بين القرى وتتميز المجالس العرفية بأن المحكمين على دراية بفكر الخصوم»، مضيفا: القرى المشهورة بالمشاكل هى «القبابات وقرية كفر قنديل، وأطفيح ومنيل السلطان، والصالحية، الكداية، وصول، والبرومبل، ومسجد موسى، والكريمات، والشوبك الشرقى، والودى، وغمازة، والأخصاص، والعطيات، ونزل عليان».
وعن أشهر مشاكل قرية «الكداية» قال: «خناقة بين شخصين لعائلتين كبيرتين، وقع بها قتيل، تم تحديد مجلس عرفى، وتم تحديد دية قيمتها نصف مليون جنيه، وتم حل المشكلة».
جلسات مصاطب
القس «إكرام لمعى» وصف المجالس العرفية بأنها «جلسات مصاطب»، مستنكرا غياب الدور الأمنى، وقال: إذا لم تستطع الشرطة السيطرة على مثل هذه المشكلات فإنه ينبغى عليها التوقف عن العمل وترك حماية القرى والمدن لأهلها، مضيفا أن أحكام تلك المجالس تحمل الكثير من الظلم لكلا الطرفين المتنازعين، ولا يلجأ لها الناس إلا مرغمين، وخاصة الضعفاء، سواء كانوا أقليات أو فقراء حتى لا يتعرضوا للتهجير أو الأذى على يد كبار العائلات متسائلاً: كيف نترك الناس للناس، لافتا إلى تجاهل تلك المجالس للشرطة وأن استمرارها يضعف من هيبة الدولة لأنها لا تقوم بمحاكمة القاتل، بل تقوم بفرض تعويض دون عقوبة ناجزة.
من جانبه نفى «خالد فؤاد» رئيس حزب الشعب الديمقراطى والمحامى بالاستئناف صحة ما يردده البعض عن أن أحكام المجالس العرفية الخاصة بالدية عن القتيل يعترف بها من قبل القضاء المصرى أو يتخذ بها أحكام تنفيذية، مضيفا: «هناك ما يسمى بالقضاء العرفى، وهو نظام معمول به عند البدو والعرب وبعض قبائل الصعيد، ويتم فيه الاحتكام إلى مجموعة قضاة عرفيين والشرط الأول قبل البدء فى الجلسة أن يحرر كل طرف شيكا على بياض، ويتم تسليمه كبداية لقبول أى حكم يصدر عن المجلس، ويكون ساريا على الطرفين، كما يحافظ على أمن واستقرار بعض الأماكن والقضاة يكونون من شيوخ القبائل للاستعاضة عن بطء إجراءات القضاء إما فى المسائل المدنية فهناك قانون التحكيم الخاص بالممتلكات».
ومن ناحيته اقترح الخبير الأمنى اللواء «سعد زايد» أن يتم تفعيل دور العمد، لأن العمدة يجمع بين السلطة العرفية المسيطرة على أهالى المناطق الريفية والصعيد والمناطق الحدودية، فضلا على ارتباطه فى نفس الوقت بالسلطة التنفيذية المتمثلة فى الأمن.
قرى الفتنة تسير على الأشواك.. غاب القانون فحضرت المحاكم العرفية.. الأعراف القبلية والروابط العائلية تفرض سطوتها فى "الخصوص" و"أطفيح".. والمجالس تحكم الصعيد بمباركة الدولة
السبت، 03 مايو 2014 09:11 ص
جانب من حوار احداث الفتنة الطائفية بالخصوص
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة