منذ اليوم الأول وهو يشعر بشىء عجيب، يحرك وجدانه ويهز أعماق فؤاده.. لم يفارقه الشعور بالوحدة خلال تحرك الطائرة من الإسكندرية إلى أوروبا.. كان يلازمه الشعور بالحنين دائما، وأنه سيغترب عن بلاده بعيدا إلى بلاد أخرى لها عادتها وثقافتها الخاصة.. مرت الأيام وجاءت اللحظة الحاسمة إلى كان ينتظرها ويحلم بها.. لقد قرر الرحيل وهو يعلم أن المهمة شاقة تحتاج إلى مزيد من الصبر والعطاء. وفى كل خطوة كان يملأه الشعور بالأمل وأنه يستطيع إنجاز مهمته فى أقل مدة محددة لتلك البعثة العلمية.
ومع أنه واجه كثيرا من المتاعب فى بداية حياته هناك، إلا أنه استطاع أن يتغلب عليها بحبه للعلم والحرص على العمل. لقد كان يعمل فى اليوم الواحد أكثر من ثلاث عشرة ساعة.
ولما لا وهو عاقد العزم على النجاح بما يتوافر لديه من قدرات وطاقات نادرا ما تجدها فى شخص مثله كما أن الحياة عنده هى الإرادة.. أليس كذلك..؟
نزل باريس وسكن فى حى راق قريب من الحى العربى الذى يذكره بالوطن والأهل والأصحاب كلما ذهب إلى هناك.. ومع نشاطه المستديم وخلقه الكبير كانت النفوس تزداد له حبا وترى فيه العقول نبلا وعلما، هذا الرجل يستحق أن يصل وأن يكون فى مقدمة السباق ومع كثرة الثناء الذى يلقاه إلا أنه لم يطرب له، فهو صاحب رسالة لم تكتمل بعد.. كما أنه ما زال يشعر باغتراب شديد لبعده عن وطنه وهجرة تلك الكفاءات العلمية والأدبية كل يوم عن أرض الوطن، فالعلم والأدب هما القوتان المحركتان لتقدم المجتمع.
حلم العودة يشغله كل يوم بل كل ساعة، ولكن كيف يرجع؟ وهو لا يجد تلك البيئة التى تحترم العلم وتقدر الباحثين.. إنه قد رحل لا لقلة الموارد ولكن لفقر الإرادة وسوء الإدارة. كان يتمنى دائما أن تحتضن بلاده العلم وأن يجد فيها مكانا للمبدعين فى كل مجال.
وفى رحلته العلمية كان يبحث ويسأل ويتحاور مع المتخصصين فهو سفير بلاده يجب أن ترى فيه الناس القدوة والمثل الأعلى.. يذهب إلى الجامعة مع كل صباح جديد ويلقى التحية على الحاضرين بابتسامة سريعة ترى فيها الأمل والإيجابية الخلاقة التى تحفزك على العطاء وتحثك على الإنجاز.. ساعات من التواصل ثم يتجه بعدها إلى حجرته الخاصة فيتفرغ للبحث والاطلاع.. وبينما هو كذلك إذ جاء إليه رجل تبدو عليه ملامح الفطنة والحكمة فألقى نظرة سريعة على المكان واستوقفته صورة هذا الباحث وظل يشاهد ما يفعله كأنه يعرفه من قبل وبدأ يحدثه قائلا:
أنت مصرى على ما أظن؟
- فاستدار إليه الرجل متسائلا
- نعم كيف عرفت؟
- أجاب بهدوء
- بساطتك.. ثقتك الشديدة بنفسك
- ثم استطرد قائلا:
- لماذا جئت إلى هنا؟
- من أجل العلم
انتهى هذا الحوار السريع بعبارة موجزة لم ينساها الرجل منذ أن خرج من مكانه إلى منزله الذى يقيم فيه.. "العلم هو القوة.. القوة". مضى على هذا اللقاء أسبوعا، وما زال حلم العودة يراوده وكيف يرجع؟ وهو لم ينته من أبحاثه بعد. وفى وسط هذا الحوار الفكرى الذاتى أراد أن ينهى تلك المعاناة.. لقد قرر العودة إلى مصر وأن يسخر كل قدراته من أجل نهضتها مهما كانت الظروف والمعوقات خاصة بعدما سمع عن قيام ثورات الربيع العربى.. رحلت الطائرة إلى مصر وهو على متنها يردد تلك الكلمات الغالية الوطن.. الوطن.. الوطن.
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
وحى القلم
الوطن
ممتاز يا مغربى