رن جرس الموبايل فى الثالثة بعد منتصف الليل، ولما نظرت فى الشاشة وجدت اسما من النوع الذى لا تربطنى به صداقة الاتصال فى الفجر، فتعجبت، لكنه فاجأنى بسؤال أغرب من توقيت الاتصال: هل قرأت مقالى أمس عن بوكو حرام؟
الدهشة منعتنى من الضحك، فقلت بارتباك: إن شاء الله، هقراه.
واصل الحديث عن المقال وبوكو حرام، وظللت أستمع على أمل أن يكون هناك سبب آخر لهذا الاتصال الغريب، وأنه على سبيل الحرج بدأ بهذا التقديم تمهيدا لموضوع الاتصال الأصلى، لكنه أنهى المكالمة من دون أن يفتح موضوعا آخر، وتركنى مع الدهشة واليقظة وذهب مطمئن البال لينام.
فكرت فى الموضوع قليلا، وقلت فى سرى، ربما كان ملولا وأراد الدردشة للتسرية عن نفسه، فاختار أول موضوع طرأ على باله، وطردت الدهشة من عقلى ونمت.
فى الصباح بحثت عن مقال الزميل، وقرأته، ولم أجد جديدا، تعليقات على موضوع معروف عن الإرهاب والعنف وما يحيط بهما، لكننى لاحظت وجود أكثر من مقال لكتاب آخرين عن بوكو حرام، وفى المساء زادت الظاهرة، أخبار كثيرة تتنوع ما بين تخطيط واشنطن وتجهيز حصان طروادة للتدخل فى نيجيريا بحجة بوكو حرام، وتعرى عارضة الأزياء الروسية إيرينا شيك للتنديد بالجماعة الإسلامية المتطرفة، وحشر اسم نجم الكرة كريستيانو رونالدو فى الموضوع (مش عارف ليه؟)، كما ركزت وكالات الأنباء على ضخ تصريحات تبدأ من زعيم بوكو حرام أبوبكر شيكاو «الذى يحب أن يقتل أعداء الله كما يقتل الدجاج والأغنام»، ولا تنتهى بحديث أنجلينا جولى عن الاشمئزاز من ممارسات الجماعة النيجيرية.
وبدأت أشعر أننى جاهل وقاسى القلب.. إذ كيف يحدث كل هذا، وأنا «مش واخد بالى» بل وأشعر بالدهشة من اتصال الكاتب المحترم فجراً، لينبهنى إلى هذه الكارثة الإنسانية؟.
ولما حان موعد كتابة مقالى، جلست أفاضل بين الموضوعات الثلاثة التى حددتها من قبل: مصر بعد نتيجة الانتخابات الرئاسية، مستقبل الحريات بعد الحديث عن فلاتر السيسى وتشكيل لجنة الرقابة المجتمعية، وأخيرا تحليل جولة تصويت المصريين فى الخارج من حيث الإقبال ودلالات المشهد الانتخابى، لكننى وبرغم تجهيزى للمعلومات الخاصة بكل مقال، وجدت نفسى أفكر فى زميلى، وموضوع بوكو حرام، وعدت للبحث عن القضية فى الأخبار وفى الملفات القديمة، وأثناء انهماكى فى البحث تذكرت قصة تشيكية قصيرة قرأتها فى صباى مترجمة للعربية فى مجلة «الجديد» التى كان يصدرها على ما أتذكر الدكتور رشاد رشدى، ووجدت نفسى أغلق نوافذ البحث، وأضحك وحدى بصوت مرتفع.
أما لماذا توقفت عن البحث وضحكت كالمجنون؟، فهذا يقتضى أن أحكى لكم القصة التى تتناول آخر يوم عمل لموظف أرشيف عجوز يستعد للخروج على المعاش، وتبدأ بوصف المكتب المكون من غرفة أرضية رطبة وشبه مظلمة، جدرانها تكسوها أرفف حديدية مكدسة بملفات يعلوها التراب من كل جانب، وكأن أحدا لم يفتحها منذ سنوات، ولا يوجد فى الغرفة إلا باب الدخول المنخفض، وشباك فى الدار المواجه لمكتب الموظف، ويطل الشباك على جدار من الطوب غير المدهون.
وبعد الوصف، يدخل الموظف الجديد بحماس ونشاط لتسلم العمل من الموظف العجوز، ويسأل أسئلة كثيرة عن طبيعة العمل، وتصنيف الملفات، وفهارس الحفز.. إلخ، لكن الموظف العجوز كان يجيب ببرود، مؤكدا أنه لا يعرف ماذا فى هذه الملفات، حيث لم يطلب منها أحد أى معلومة طوال مدة خدمته، وتذكر أنه رتبها مرة واحدة عند استلام عمله، وحاول أن يصنع الفهارس ويطور طريقة الحفظ، لكنه شعر مع الوقت بالعبث لأن أحدا لم يسأل عنه أو يطلب منه أى شىء.
بدأ الموظف الجديد يشعر بالقلق من شخصية العجوز، وساورته الشكوك أنه لا يريد أن يتعاون معه، فسأله: ماذا تفعل إذن طوال يوم العمل؟
رد العجوز: ذات يوم جلست على مكتبى، وسألت عن أهمية وجودى فى العمل، وبينما أنا مستغرق فى التفكير شاهدت هذا الجدار الضخم أمامى، فبدأت أعد الطوب على ثلاثة مراحل، الأولى انتهت عن هذه العلامة، وقمت لأجل الحمام، والثانية انتهت عند هذه العلامة فتناولت الساندوتش الذى أحضرته معى، وعندما وصلت إلى نهاية الجدار، كان موعد انصرافى قد حل، فذهبت إلى بيتى، وفى اليوم التالى ساروتنى الشكوك أننى أخطات فى العدد، فكررت الأمر، حتى تأكدت أن العدد المضبوط هو ألفان و643 طوبة.
لم يقتنع الموظف الجديد بهذه القصة العبثية، وجلس على المكتب بعد انصراف الموظف العجوز يفكر فى تنظيف وترتيب المكان، لكنه لم يستطع أن يطرد القصة من عقله، وقال لنفسه: لا شك أن الشيخوخة أصابت الرجل بالخرف أو أنه يشعر بالضيق منى لأننى أمثل بالنسبة له نهاية رحلة العطاء والعمل، فهل من المعقول أن يفنى إنسان ما عمره بلا جدوى، ويظل طوال مدته خدمته يكرر مهمة عبثية يعد فيها أحجار جدار، خاصة أنه رجل ذكى ويريد أن يخدعنى فيوحى لى أنه فعلا عد الأحجار بالواحدة، وأنها 2643، أو 2634 لا أذكر؟!
وقام من مكانه ليتعرف على الملفات فانهال عليه التراب، بحث عن شىء ينظف به فلم يجد، أمسك سماعة التليفون ليطلب أدوات تنظيف من الإدارة فوجده معطلاً، جلس مجددا على المكتب، وسأل نفسه: هل كان هذا الرجل يخدعنى أم أنه فعل ذلك فعلا؟، وهل هذه الأحجار فعلا 2643؟، وبدا فى العد: 1 2- 3- 4-.........
هكذا يمكن للمحاكاة أن تفرض نفسها على الفرد بقوة البيئة المحيطة، وتمسخ شخصيته ودوره برغم ظروفه الذاتية التى قد تكون مؤهلة للعمل والإبداع، وهذه المحاكاة هى التى أدت إلى تراجع العقل وشيوع توكيلات النقل فى الثقافة والفكر والصناعة على السواء، كما أنها السبب فى أن المجتمع كله يجرى وراء الكرة، لأنه لا يلعب وفق خطة، ولا يتمركز كل حسب موقعه ودوره فى الخطة، وبالتالى فإننا لا ندرك الفرق بين حارس المرمى والهداف، بين الجندى والفلاح، بين الصحفى والمفكر، بين الطبيب والأديب، بين الشاعر ولاعب الكرة، وتكون النتيجة أن المجتمع يصبح «سداح مداح».. كل واحد يعجبه عقله ولا يعجبه عمله، الجندى يحكم ويلعب سياسة، والسياسى يقاتلك ويلجأ للسلاح، والطبيب يتحول إلى مندوب مبيعات، والراقصة إلى واعظة، والواعظ إلى راقص، وأمام رغبة الجميع فى التطلع للسلطة والشهرة والثروة، وفرض أنفسهم كقدوة «فاسدة» لغيرهم، تغيب القدوة الصالحة، ويؤدى بنا العبث واليأس إلى الجلوس فى الكهف المظلم الكئيب أمام نافذة المستقبل المسدود بجدار الأمر الواقع لنحاكى اليائسين من قبلنا ونعد الأحجار: 1 2- 3- 4- 5-.
> الأنظمة المجرمة لم ينشئها مجرمون وإنما أناس متحمسون ومقتنعون بأنهم وحدهم يعرفون الطريق الوحيد إلى الجنة.
(ميلان كونديرا)
جمال الجمل يكتب: موضة «بوكو حرام» تضع مستقبلنا جميعا أمام الجدار.. المحاكاة أدت إلى تراجع العقل وشيوع توكيلات النقل
الأحد، 18 مايو 2014 06:51 ص
بوكو حرام
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة