سويسرا.. أرض الجبال والغابات والساعات والشيكولاتة والثقافة..«الانتخابات الرئاسية» أول سؤال يسأله السويسريون لأى مصرى يلتقونه.. ويطرحون بأنفسهم الإجابة: «محسومة للجنرال؟»
السبت، 17 مايو 2014 10:07 ص
جانب من الجولة
رسالة سويسرا: وجدى الكومى ( نقلاً عن العدد اليومى)
لماذا ننقم على بلادنا حينما نسافر للخارج؟
هل نكرهها؟ هل نكره مصر أم نكره أنفسنا أم نغار عليها؟
المؤكد أننا نتمنى أن تكون مصر أم الدنيا وعظيمة فعلا.
ترددت الكلمات السابقة فى ذهنى بإلحاح، منذ وطأت قدماى أرض سويسرا، قبل أيام، لذلك أطلب منك رجاء خاصا، نحِّ جانبا أى أفكار شوفينية أو تعصبية أو قبلية قبل قراءتك هذه السطور، أو اطوها جانبا، وامض قدما إلى موضوع آخر، فلن تجد هنا أى انحياز لأفكار من قبيل «مصر أم الدنيا»، و«يا حبيبتى يا مصر»، بل ستجد أفكارا ساخطة ناقمة على وضعنا الحالى بعد أيام معدودة قضيتها فى دولة سويسرا التى وصلتها فى رحلة إقامة أدبية لكتابة مشروع روائى، بدعم من المؤسسة الثقافية السويسرية «بروهيلفتسيا» فى الشرق الأوسط.
تركت مطار القاهرة والجو فى عاصمة بلادنا «صهد»، الحرارة مرتفعة، والعرق يلسع الجبين، أتردد بينما أتحرك فى أمل نحو بوابة المطار، حركتى ثقيلة، بطبيعة الحال نظرا للحقائب الثلاث التى كنت أصطحبها معى، ثقلها يبطئ حركتى، إحداها كانت ممتلئة بالكتب، سأقضى ثلاثة أشهر وحيدا لأول مرة مع أمل الانتهاء من عمل أدبى جديد، على ذراعى الأيمن جاكيت، كاد أن يضيع، بعدما نسيته فى التاكسى، ونزلت منشغلا بحقائبى، عاد سائق التاكسى لحسن الحظ، لكن سوء الحظ لم يفارقنى، على الرغم أنها ليست المرة الأولى التى أسافر فيها خارج مصر، إحدى هذه الحقائب الثلاث كان بها ماكينة حلاقة، ما جعل أمين الشرطة فى منطقة عبور الجوازات يعترض على اصطحابى الحقيبة داخل الطائرة، وأصر أن يشحنها مع حقائبى الأخرى، قلت له إن لدى رحلة أخرى من جنيف إلى زيورخ، وإن هذه الحقيبة ستضيع فى مطار جنيف، لأنها لم تحصل على «Lable» الترانزيت الذى يحولها تلقائيا إلى الطائرة الأخرى، قال لا تقلق، لكننى ظللت قلقا، متوجسا من ضياع الحقيبة فى مطار «جنيف»، وهو ما حدث فعلا.
وصلت «جنيف» الثانية ظهرا، بعدما أقلعت طائرتى من مطار القاهرة فى العاشرة إلا ربعا، ومن «جنيف» استقللت طائرة سويسرية إلى «زيورخ» حيث مقر إقامتى، وبمجرد وصولى مطار «زيورخ»، حدث ما توقعته، حيث لم تصل حقيبتى الصغيرة التى احتجزتها الشرطة منى فى مطار القاهرة، لأن بها ماكينة حلاقة، ما حدث أنها ظلت فى مطار «جنيف»، ولم يتم شحنها إلى طائرة «زيورخ»، ومن هنا تبدأ الحكاية الحقيقية التى بدأت معها اكتشاف هذا البلد، سويسرا.
فى مطار «زيورخ» توجهت إلى قسم «المفقودات» لأحرر محضرا عن ضياع الحقيبة، جلست أمام موظفة أنيقة، دفعت لى بلائحة تحمل عدة أشكال لحقائب صغيرة مختلفة، وقالت لى اعطنى أوصاف حقيبتك الضائعة، أو اختر الشكل الأقرب، وصفت لها شكل حقيبتى، بدأت تسألنى عدة أسئلة، هل كانت تحوى أى مشروبات كحولية، قلت لها: لا، سألتنى: هل كانت تحمل أى أدوات خطيرة، أو أسلحة؟، قلت لها: لا، تبرعت بالإفصاح عن محتوياتها، بقولى: «كانت تحوى ماكينة حلاقة، وبعض المأكولات».
ارتسمت على ملامحها علامات الاهتمام، قالت: أى أنواع من الأكل؟، قلت: «دجاج وجبنة رومى»، كنت أتصرف مثل أى مصرى يسافر لبلد غريب للمرة الأولى، يصطحب معه طعامه المفضل، حتى يتأقلم على طعام البلد الذى سيقيم فيه، كانت زوجتى قد سهرت ليلة كاملة على إعداد هذه «الفراخ»، وجعلها جاهزة للتسوية، بمجرد وضعها فى النار، لماذا أحكى هذه الحكاية؟ أعرف أن علامات السخرية والاستهزاء ارتسمت على ملامحك وأنت تقرأ، لكن ما يهمنى من رواية هذه القصة الإشارة إلى كيفية تصرف السويسريون مع هذا الغريب، الذى حاول أن يدخل «فراخا» مصرية إلى بلادهم.. رمقتنى الموظفة فى حذر، وفى حزم وقالت: ليس مسموحا بجلب «فراخ» من مصر إلى سويسرا.
حاولت قدر الإمكان تجنب الجدال، قلت: «هى للاستخدام الشخصى، عموما يمكنك الاحتفاظ بها، لكن الحقيبة بها أشياء أخرى تهمنى، شاى، وقهوة، وأدوات الحلاقة، ومعجون الأسنان»، دفعت لى الموظفة بأوراق لأوقعها، ثم نهضت واختفت فى حجرة خلف مكتبها، وعادت تحمل حقيبة صغيرة، أعطتها لى، وقالت: «هذه الحقيبة، يمكنك استخدامها مؤقتا، حتى نسترد لك حقيبتك».
كنت منهكا، ومستيقظا منذ صباح الليلة السابقة على سفرى، لكن قدرتى على الانتباه لم تتأثر، تناولت الحقيبة منها، وأنا فاقد الأمل تماما فى استرداد الحقيبة، لكن الموظفة بدت واثقة، وهى تحصل منى على عنوانى فى مدينة «فنترتور» التى سأقيم فيها، والتابعة لمدينة «زيورخ»، وكذلك تليفون السيدة «أناليز» المسؤولة عن المكان الذى سأقيم فيه، والتى كانت تنتظرنى فى الخارج، لتقلنى إلى المنزل.
فى الخارج لم تكن السيدة «أناليز» تنتظر وحدها، بل كان بصحبتها فنانة من الفنانات اللواتى أقمن فيما سبق فى الفيلا التى تشرف عليها، المخصصة من قبل مؤسسة «شتراولى» لإقامات الفنانين والمبدعين من جميع أنحاء العالم، وكان بصحبة الفنانة صديقها الذى قادنا بسيارته إلى فيلا مؤسسة «شتراولى».
كان الجو ممطرا فى «زيورخ»، درجة الحرارة 4 درجات، لم أشعر ببرد قارص، بل كانت نسمات الهواء ناعمة، ورذاذ المطر كان حانيا، شعرت بالسعادة من الأجواء اللطيفة، بعد الصهد الذى تركته فى القاهرة.
ابتدرنى الصديق الذى تولى مهمة القيادة، بعدما ساعدنى فى وضع حقائبى الثقيلة فى سيارته، سألنى فى لهفة: «ما الأخبار فى مصر؟ لديكم موسم سياسى ساخن»، قلت: «على المستوى السياسى والمناخ أيضا، درجة الحرارة فى القاهرة تقترب من الثلاثين».
واصل أسئلته: «هل تظن أن الانتخابات محسومة للجنرال السيسى؟ فهمت أن الأخبار تأتيهم بشكل أو بآخر»، قلت: «هل تتابعون جيدا ما يحدث فى مصر؟»، قال بسرعة: «طبعا، ونظن أن الرئيس القادم معروف مقدما؟».. قلت: «هناك قوى سياسية عديدة تراهن على فوز المشير عبدالفتاح السيسى، لكن الانتخابات فعليا ربما تسفر عن مفاجأة، لا أحد يعرف».
كنت ملهوفا لتأمل المشاهد من حولى، لذلك حاولت ألا أنخرط مبكرا فى أى مناقشات.. شوارع «زيورخ» كانت صافية، الحركة قليلة، المرور منتظم، قالوا لى إن المسافة بين «زيورخ» والمدينة التى سأقيم فيها «فنترتور»، تستغرق دقائق بالسيارة.. «فنترتور» المدينة الصغيرة التابعة لزيورخ، التى كانت فى البداية مدينة صناعية، تحولت بفضل قوانين الكونفدرالية السويسرية إلى مدينة ثقافية، ومنطقة مليئة بالحدائق والمساحات الخضراء، فى الفيلا التى خصصتها مؤسسة ثقافية تسمى مؤسسة «شتراولى»، توجد ثلاثة استوديوهات مجهزة لثلاثة فنانين، يحوى كل منها غرفة واسعة بمكتب كبير، ووسائل إضاءة مريحة، وكذلك غرفة أخرى لنومه، بالإضافة لمطبخ ملحق باستقبال الاستوديو، وحمام خاص، جاء حسن حظى أن الاستوديو الذى أقيم فيه مزود بـ«تراس» واسع، يتسع لجلوس حوالى 15 شخصا، ويطل على حدائق الفيلا، والفيلات المحيطة بها.
حينما خرجت أسير فى شوارع «فنترتور» للمرة الأولى، كانت السماء تمطر لكن شوارع المدينة الصغيرة لا تحتفظ بالأمطار، العديد من فتحات التصريف منتشرة، تنتظر الأمطار بتأهب، وتستعد دوما لابتلاعها، لا يمكن أبدا أن تتلوث ملابسك بأمطار متجمعة فى بحيرة صغيرة، دهستها إطارات سيارة مسرعة، هذا أمر غير وارد، بينما السيول تدق العين السخنة، وتغرق وتحاصر 4 قرى سياحية، وتدمر 11 سيارة ملاكى ونقل، وتوقف طريق الزعفرانة 7 ساعات، ويلجأ المواطنون إلى اعتلاء الجبال للهروب من السيول، فى الصباح نظرت عبر نافذتى، كان لدى موعد فى مدينة «زيورخ» للقاء المسؤولين فى مؤسسة «بروهيلفتسيا» الثقافية، سألت نفسى وأنا أرمق الأمطار: هل بوسعى أن أخرج فى هذا الجو الممطر، دون أن أتأذى، أو تتأذى ملابسى بالمخاطر المعهودة.
«الأمطار فى السماء وحدها، لكنها ليست على الأرض».. تلخص هذه العبارة حال منظومة التصدى للأمطار التى تحمى مواطنى سويسرا من الغرق، أو من مواجهة أخطار السيول، على الرغم من أنها معروفة بكونها أكثر البلاد التى تضم سلاسل جبلية، حيث تبلغ مساحة الجبال %7 من أرضها.
تحديقى فى الأرض، ومحاولاتى الفاشلة لاصطياد بركة مياه متخلفة من الأمطار، كما يحدث عندنا فى مصر، قادنى لملحوظة أخرى، وهى العلامات المخصصة للدراجات، وكذلك المشاة، كل شىء مرسوم بدقة، سيظن كثيرون أننى لا أقدم معلومات جديدة.. ما الجديد فى ذلك، نحن نعرف أن كل شىء محدد ومرسوم، وأنهم منظمون، وأنهم وأنهم وأنهم فعلا.. أن يعرف الشخص مسبقا هذه المعلومة، هذا شىء مختلف عن أن يراه بنفسه، ويلمسه، هذا موجع، سلسلة المقارنات التى ظللت أعقدها رغما عن أنفى، بدأت تشعرنى تدريجيا بأننى مستدرج إلى ما يشبه الصدمة الحضارية، فهذه البلاد حسبت لكل شىء حسابه، ووضعت لكل احتمال نسبة تحقق تقترب من المائة فى المائة، شبكة معقدة على الأرض للدراجات، والسيارات، والمشاة، لا تتداخل، الكل يقف عند خطوط المشاة فى انتظار الإشارة، وكذلك الدراجات، لا يوجد بوليس فى الشوارع إلا القليل، عبارة عن دوريات راكبة، والكل يتحرك وفقا للمنظومة، فى آلية وانصياع، وسلاسة وسعادة، الكل يؤمن أنه مادام سار فى طريقه فلن يصيبه الأذى، ولن يطغى عليه أى شخص آخر، مادام أنه التزم بالمرسوم له.
فى الصباح التالى لوصولى إلى «فنترتور»، هاتفنى المطار، جاءنى صوت يتحدث بالألمانية، قائلاً: «جوتن تاج»، قلت: أتحدث الإنجليزية فقط، فصمت الصوت قليلا، قبل أن يأتى صوت آخر، محييا بالإنجليزية، ويعرفنى أن الحقيبة تم العثور عليها فى مطار «جنيف»، وتم تسلّمها فى «زيورخ»، شعرت بالسعادة من الخبر، قلت مبتهجا: متى أستطيع أن أحضر إلى المطار لتسلّمها؟، أجابنى الصوت: لا داعى أن تحضر، سوف نجلبها لك فى العاشرة صباح اليوم.
لمعلوماتك..
◄◄سويسرا.. جمهورية اتحادية من 26 كانتونا فى أوروبا الغربية. حدودها ألمانيا من الشمال، فرنسا من الغرب، إيطاليا من الجنوب، النمسا وليختنشتاين من الشرق
◄◄الاتحاد السويسرى له تاريخ طويل من الحياد المسلح، ولم يدخل حربا منذ 1815، ولم ينضم للأمم المتحدة إلا سنة 2002
◄◄يوجد فى مدينة زيورخ السويسرية أكبر سوق للذهب وترتيب بورصتها الرابعة على العالم بعد نيويورك ولندن وطوكيو
◄◄زيورخ مدينة ذات مستوى معيشة عال، فمنذ عام2002 وحتى عام2008 سميت مدينة زيورخ من قبل «ميرسير» لاستشارات الموارد البشرية، 7 مرات على التوالى على أنها مدينة ذات الجودة الأعلى من المعيشة فى العالم.
◄◄7.8 سكان سويسرا حوالى مليون شخص، معظمهم متركز على الهضبة الوسطى.
◄◄مدينة زيورخ «عاصمة للخبرات» وتتميز بمحاذاتها للمياه، وبمنظر رائع من جبال الألب. ويقدم وسط مدينة زيورخ فى سويسرا مزيج فريد من عوامل الجذب- إذ يوجد فيها أكثر من 50 متحفا وأكثر من 100 من المعارض الفنية
◄◄«برن» مقر السلطات الاتحادية. سويسرا بلد بدون سواحل، أراضيها مقسمة بين جبال الألب والهضبة الوسطى وجبال جورا، ومساحتها 41285 كم 2 (15940 ميل مربع).
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لماذا ننقم على بلادنا حينما نسافر للخارج؟
هل نكرهها؟ هل نكره مصر أم نكره أنفسنا أم نغار عليها؟
المؤكد أننا نتمنى أن تكون مصر أم الدنيا وعظيمة فعلا.
ترددت الكلمات السابقة فى ذهنى بإلحاح، منذ وطأت قدماى أرض سويسرا، قبل أيام، لذلك أطلب منك رجاء خاصا، نحِّ جانبا أى أفكار شوفينية أو تعصبية أو قبلية قبل قراءتك هذه السطور، أو اطوها جانبا، وامض قدما إلى موضوع آخر، فلن تجد هنا أى انحياز لأفكار من قبيل «مصر أم الدنيا»، و«يا حبيبتى يا مصر»، بل ستجد أفكارا ساخطة ناقمة على وضعنا الحالى بعد أيام معدودة قضيتها فى دولة سويسرا التى وصلتها فى رحلة إقامة أدبية لكتابة مشروع روائى، بدعم من المؤسسة الثقافية السويسرية «بروهيلفتسيا» فى الشرق الأوسط.
تركت مطار القاهرة والجو فى عاصمة بلادنا «صهد»، الحرارة مرتفعة، والعرق يلسع الجبين، أتردد بينما أتحرك فى أمل نحو بوابة المطار، حركتى ثقيلة، بطبيعة الحال نظرا للحقائب الثلاث التى كنت أصطحبها معى، ثقلها يبطئ حركتى، إحداها كانت ممتلئة بالكتب، سأقضى ثلاثة أشهر وحيدا لأول مرة مع أمل الانتهاء من عمل أدبى جديد، على ذراعى الأيمن جاكيت، كاد أن يضيع، بعدما نسيته فى التاكسى، ونزلت منشغلا بحقائبى، عاد سائق التاكسى لحسن الحظ، لكن سوء الحظ لم يفارقنى، على الرغم أنها ليست المرة الأولى التى أسافر فيها خارج مصر، إحدى هذه الحقائب الثلاث كان بها ماكينة حلاقة، ما جعل أمين الشرطة فى منطقة عبور الجوازات يعترض على اصطحابى الحقيبة داخل الطائرة، وأصر أن يشحنها مع حقائبى الأخرى، قلت له إن لدى رحلة أخرى من جنيف إلى زيورخ، وإن هذه الحقيبة ستضيع فى مطار جنيف، لأنها لم تحصل على «Lable» الترانزيت الذى يحولها تلقائيا إلى الطائرة الأخرى، قال لا تقلق، لكننى ظللت قلقا، متوجسا من ضياع الحقيبة فى مطار «جنيف»، وهو ما حدث فعلا.
وصلت «جنيف» الثانية ظهرا، بعدما أقلعت طائرتى من مطار القاهرة فى العاشرة إلا ربعا، ومن «جنيف» استقللت طائرة سويسرية إلى «زيورخ» حيث مقر إقامتى، وبمجرد وصولى مطار «زيورخ»، حدث ما توقعته، حيث لم تصل حقيبتى الصغيرة التى احتجزتها الشرطة منى فى مطار القاهرة، لأن بها ماكينة حلاقة، ما حدث أنها ظلت فى مطار «جنيف»، ولم يتم شحنها إلى طائرة «زيورخ»، ومن هنا تبدأ الحكاية الحقيقية التى بدأت معها اكتشاف هذا البلد، سويسرا.
فى مطار «زيورخ» توجهت إلى قسم «المفقودات» لأحرر محضرا عن ضياع الحقيبة، جلست أمام موظفة أنيقة، دفعت لى بلائحة تحمل عدة أشكال لحقائب صغيرة مختلفة، وقالت لى اعطنى أوصاف حقيبتك الضائعة، أو اختر الشكل الأقرب، وصفت لها شكل حقيبتى، بدأت تسألنى عدة أسئلة، هل كانت تحوى أى مشروبات كحولية، قلت لها: لا، سألتنى: هل كانت تحمل أى أدوات خطيرة، أو أسلحة؟، قلت لها: لا، تبرعت بالإفصاح عن محتوياتها، بقولى: «كانت تحوى ماكينة حلاقة، وبعض المأكولات».
ارتسمت على ملامحها علامات الاهتمام، قالت: أى أنواع من الأكل؟، قلت: «دجاج وجبنة رومى»، كنت أتصرف مثل أى مصرى يسافر لبلد غريب للمرة الأولى، يصطحب معه طعامه المفضل، حتى يتأقلم على طعام البلد الذى سيقيم فيه، كانت زوجتى قد سهرت ليلة كاملة على إعداد هذه «الفراخ»، وجعلها جاهزة للتسوية، بمجرد وضعها فى النار، لماذا أحكى هذه الحكاية؟ أعرف أن علامات السخرية والاستهزاء ارتسمت على ملامحك وأنت تقرأ، لكن ما يهمنى من رواية هذه القصة الإشارة إلى كيفية تصرف السويسريون مع هذا الغريب، الذى حاول أن يدخل «فراخا» مصرية إلى بلادهم.. رمقتنى الموظفة فى حذر، وفى حزم وقالت: ليس مسموحا بجلب «فراخ» من مصر إلى سويسرا.
حاولت قدر الإمكان تجنب الجدال، قلت: «هى للاستخدام الشخصى، عموما يمكنك الاحتفاظ بها، لكن الحقيبة بها أشياء أخرى تهمنى، شاى، وقهوة، وأدوات الحلاقة، ومعجون الأسنان»، دفعت لى الموظفة بأوراق لأوقعها، ثم نهضت واختفت فى حجرة خلف مكتبها، وعادت تحمل حقيبة صغيرة، أعطتها لى، وقالت: «هذه الحقيبة، يمكنك استخدامها مؤقتا، حتى نسترد لك حقيبتك».
كنت منهكا، ومستيقظا منذ صباح الليلة السابقة على سفرى، لكن قدرتى على الانتباه لم تتأثر، تناولت الحقيبة منها، وأنا فاقد الأمل تماما فى استرداد الحقيبة، لكن الموظفة بدت واثقة، وهى تحصل منى على عنوانى فى مدينة «فنترتور» التى سأقيم فيها، والتابعة لمدينة «زيورخ»، وكذلك تليفون السيدة «أناليز» المسؤولة عن المكان الذى سأقيم فيه، والتى كانت تنتظرنى فى الخارج، لتقلنى إلى المنزل.
فى الخارج لم تكن السيدة «أناليز» تنتظر وحدها، بل كان بصحبتها فنانة من الفنانات اللواتى أقمن فيما سبق فى الفيلا التى تشرف عليها، المخصصة من قبل مؤسسة «شتراولى» لإقامات الفنانين والمبدعين من جميع أنحاء العالم، وكان بصحبة الفنانة صديقها الذى قادنا بسيارته إلى فيلا مؤسسة «شتراولى».
كان الجو ممطرا فى «زيورخ»، درجة الحرارة 4 درجات، لم أشعر ببرد قارص، بل كانت نسمات الهواء ناعمة، ورذاذ المطر كان حانيا، شعرت بالسعادة من الأجواء اللطيفة، بعد الصهد الذى تركته فى القاهرة.
ابتدرنى الصديق الذى تولى مهمة القيادة، بعدما ساعدنى فى وضع حقائبى الثقيلة فى سيارته، سألنى فى لهفة: «ما الأخبار فى مصر؟ لديكم موسم سياسى ساخن»، قلت: «على المستوى السياسى والمناخ أيضا، درجة الحرارة فى القاهرة تقترب من الثلاثين».
واصل أسئلته: «هل تظن أن الانتخابات محسومة للجنرال السيسى؟ فهمت أن الأخبار تأتيهم بشكل أو بآخر»، قلت: «هل تتابعون جيدا ما يحدث فى مصر؟»، قال بسرعة: «طبعا، ونظن أن الرئيس القادم معروف مقدما؟».. قلت: «هناك قوى سياسية عديدة تراهن على فوز المشير عبدالفتاح السيسى، لكن الانتخابات فعليا ربما تسفر عن مفاجأة، لا أحد يعرف».
كنت ملهوفا لتأمل المشاهد من حولى، لذلك حاولت ألا أنخرط مبكرا فى أى مناقشات.. شوارع «زيورخ» كانت صافية، الحركة قليلة، المرور منتظم، قالوا لى إن المسافة بين «زيورخ» والمدينة التى سأقيم فيها «فنترتور»، تستغرق دقائق بالسيارة.. «فنترتور» المدينة الصغيرة التابعة لزيورخ، التى كانت فى البداية مدينة صناعية، تحولت بفضل قوانين الكونفدرالية السويسرية إلى مدينة ثقافية، ومنطقة مليئة بالحدائق والمساحات الخضراء، فى الفيلا التى خصصتها مؤسسة ثقافية تسمى مؤسسة «شتراولى»، توجد ثلاثة استوديوهات مجهزة لثلاثة فنانين، يحوى كل منها غرفة واسعة بمكتب كبير، ووسائل إضاءة مريحة، وكذلك غرفة أخرى لنومه، بالإضافة لمطبخ ملحق باستقبال الاستوديو، وحمام خاص، جاء حسن حظى أن الاستوديو الذى أقيم فيه مزود بـ«تراس» واسع، يتسع لجلوس حوالى 15 شخصا، ويطل على حدائق الفيلا، والفيلات المحيطة بها.
حينما خرجت أسير فى شوارع «فنترتور» للمرة الأولى، كانت السماء تمطر لكن شوارع المدينة الصغيرة لا تحتفظ بالأمطار، العديد من فتحات التصريف منتشرة، تنتظر الأمطار بتأهب، وتستعد دوما لابتلاعها، لا يمكن أبدا أن تتلوث ملابسك بأمطار متجمعة فى بحيرة صغيرة، دهستها إطارات سيارة مسرعة، هذا أمر غير وارد، بينما السيول تدق العين السخنة، وتغرق وتحاصر 4 قرى سياحية، وتدمر 11 سيارة ملاكى ونقل، وتوقف طريق الزعفرانة 7 ساعات، ويلجأ المواطنون إلى اعتلاء الجبال للهروب من السيول، فى الصباح نظرت عبر نافذتى، كان لدى موعد فى مدينة «زيورخ» للقاء المسؤولين فى مؤسسة «بروهيلفتسيا» الثقافية، سألت نفسى وأنا أرمق الأمطار: هل بوسعى أن أخرج فى هذا الجو الممطر، دون أن أتأذى، أو تتأذى ملابسى بالمخاطر المعهودة.
«الأمطار فى السماء وحدها، لكنها ليست على الأرض».. تلخص هذه العبارة حال منظومة التصدى للأمطار التى تحمى مواطنى سويسرا من الغرق، أو من مواجهة أخطار السيول، على الرغم من أنها معروفة بكونها أكثر البلاد التى تضم سلاسل جبلية، حيث تبلغ مساحة الجبال %7 من أرضها.
تحديقى فى الأرض، ومحاولاتى الفاشلة لاصطياد بركة مياه متخلفة من الأمطار، كما يحدث عندنا فى مصر، قادنى لملحوظة أخرى، وهى العلامات المخصصة للدراجات، وكذلك المشاة، كل شىء مرسوم بدقة، سيظن كثيرون أننى لا أقدم معلومات جديدة.. ما الجديد فى ذلك، نحن نعرف أن كل شىء محدد ومرسوم، وأنهم منظمون، وأنهم وأنهم وأنهم فعلا.. أن يعرف الشخص مسبقا هذه المعلومة، هذا شىء مختلف عن أن يراه بنفسه، ويلمسه، هذا موجع، سلسلة المقارنات التى ظللت أعقدها رغما عن أنفى، بدأت تشعرنى تدريجيا بأننى مستدرج إلى ما يشبه الصدمة الحضارية، فهذه البلاد حسبت لكل شىء حسابه، ووضعت لكل احتمال نسبة تحقق تقترب من المائة فى المائة، شبكة معقدة على الأرض للدراجات، والسيارات، والمشاة، لا تتداخل، الكل يقف عند خطوط المشاة فى انتظار الإشارة، وكذلك الدراجات، لا يوجد بوليس فى الشوارع إلا القليل، عبارة عن دوريات راكبة، والكل يتحرك وفقا للمنظومة، فى آلية وانصياع، وسلاسة وسعادة، الكل يؤمن أنه مادام سار فى طريقه فلن يصيبه الأذى، ولن يطغى عليه أى شخص آخر، مادام أنه التزم بالمرسوم له.
فى الصباح التالى لوصولى إلى «فنترتور»، هاتفنى المطار، جاءنى صوت يتحدث بالألمانية، قائلاً: «جوتن تاج»، قلت: أتحدث الإنجليزية فقط، فصمت الصوت قليلا، قبل أن يأتى صوت آخر، محييا بالإنجليزية، ويعرفنى أن الحقيبة تم العثور عليها فى مطار «جنيف»، وتم تسلّمها فى «زيورخ»، شعرت بالسعادة من الخبر، قلت مبتهجا: متى أستطيع أن أحضر إلى المطار لتسلّمها؟، أجابنى الصوت: لا داعى أن تحضر، سوف نجلبها لك فى العاشرة صباح اليوم.
لمعلوماتك..
◄◄سويسرا.. جمهورية اتحادية من 26 كانتونا فى أوروبا الغربية. حدودها ألمانيا من الشمال، فرنسا من الغرب، إيطاليا من الجنوب، النمسا وليختنشتاين من الشرق
◄◄الاتحاد السويسرى له تاريخ طويل من الحياد المسلح، ولم يدخل حربا منذ 1815، ولم ينضم للأمم المتحدة إلا سنة 2002
◄◄يوجد فى مدينة زيورخ السويسرية أكبر سوق للذهب وترتيب بورصتها الرابعة على العالم بعد نيويورك ولندن وطوكيو
◄◄زيورخ مدينة ذات مستوى معيشة عال، فمنذ عام2002 وحتى عام2008 سميت مدينة زيورخ من قبل «ميرسير» لاستشارات الموارد البشرية، 7 مرات على التوالى على أنها مدينة ذات الجودة الأعلى من المعيشة فى العالم.
◄◄7.8 سكان سويسرا حوالى مليون شخص، معظمهم متركز على الهضبة الوسطى.
◄◄مدينة زيورخ «عاصمة للخبرات» وتتميز بمحاذاتها للمياه، وبمنظر رائع من جبال الألب. ويقدم وسط مدينة زيورخ فى سويسرا مزيج فريد من عوامل الجذب- إذ يوجد فيها أكثر من 50 متحفا وأكثر من 100 من المعارض الفنية
◄◄«برن» مقر السلطات الاتحادية. سويسرا بلد بدون سواحل، أراضيها مقسمة بين جبال الألب والهضبة الوسطى وجبال جورا، ومساحتها 41285 كم 2 (15940 ميل مربع).
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة