نقلا عن اليومى..
حرصت الشريعة الإسلامية على مصالح العباد الحقيقية، ودرء المفاسد عنهم بمنهجية منضبطة، بل إنها لم تشرع إلا لتحقيق مصالحهم العاجلة والآجلة، ودرء المفاسد العاجلة والآجلة عنهم فى الدنيا والآخرة، وهذا ما أكده الفقهاء سلفًا وخلفًا بأن «الشريعة كلها مصالح، إما درء مفاسد أو جلب مصالح».
وكل ما شرعه الله تعالى لعباده إنما يهدف إلى سعادة العباد، وتحقيق الخير لهم فى العاجل والآجل، يقول العز بن عبد السلام: «والشريعة كلها مصالح، فإذا سمعت الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرًا يحثك عليه، أو شرًا يزجرك عنه، أو جمعًا بين الحث والزجر». وقال ابن تيمية: «إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها».
لكن قبل أن نستعرض الأدلة على ذلك، لا بد أن نؤكد ضرورة أن يتبنى الخطاب الدينى تبصير العوام بحرص الشريعة العظيم على مصالح العباد والبلاد، بل هذا فى حقيقة الأمر أداة مهمة من أدوات هذا الخطاب، وخصيصة من خصائصه التى يجلِّى من خلالها الدعاة حقائق الشريعة لتكون هادية للأمة، وسط ظلمات التشدد والتطرف والمغالاة والتفلت.
نريد خطابًا إسلاميًا يؤكد أن الشريعة الإسلامية حرصت على جلب المصالح للعباد، ليس فى الدنيا فحسب، بل فى الآخرة أيضًا، فقد كانت رسالة النبى صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، فهذه الرحمة لا يمكن أن تغفل جلب المصلحة للعباد، ودرء المفسدة عنهم.
فالخطاب الدينى بتبنِّيه بيان أن الشريعة بهدفيها، جلب المصلحة ودرء المفسدة، إنما يبين للأمة صحيح دينها من خلال منهج وسطى معتدل، فأحكام الشريعة كانت بين منح ومنع، بين رخص وعزائم، فقد جاءت الشريعة الإسلامية بالرخص للعباد فى وجود مشقات عظيمة على الأمة فى تطبيق الأحكام، منها إباحة التلفظ بكلمة الكفر لمن أكره عليها، وهُدد بالقتل، فقال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)، ومنها إباحة المحرَّم عند الضرورة، مثل أكل الميتة، خشية التعرض للهلاك جوعًا، وإباحة الفطر فى رمضان للمريض والمسافر؛ فدفع المشقة ضرب من ضروب رعاية المصلحة، ودرء المفسدة عن الناس.
أما بالنسبة للأحكام فقد شرعت لجلب المصالح ودرء المفاسد، فالشريعة حين شرعت القصاص شرعته من أجل مصلحة العباد التى تتمثل فى تحقيق الاستقرار والأمن والطمأنينة، وحقن الدماء، فقال تعالى: (ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب)، كما أنه عامل زجر لكل من تسوِّل له نفسه الاعتداء على أرواح الناس. كما أن درء المفاسد هو وجه من وجوه المصالح، فالمصلحة حين تجلب النفع فهذا وجه إيجابى، ودفع الضر والمفسدة فهذا وجه سلبى، يقول تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)، فتحريم الخمر يدرأ عن الناس مفسدة الصد عن ذكر الله، وعن الصلاة.
ومصالح العباد تتنوع إلى ثلاثة: ضرورية أو حاجية أو تحسينية، والضرورية هى التى بدونها لا تقوم حياة العباد، ويختل المجتمع بفقدها خللًا واضحًا، وإذا لم تتحقق حل الفساد، وعمت الفوضى، واختل نظام الحياة، وهى المتمثلة فى المقاصد العليا فى حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. أما الحاجية فهى ما يحتاجه الناس لتحقيق السعة، والتيسير فى معاشهم، لكن لا يختل نظام الحياة بغيابها؛ ربما أصابهم ضيق وحرج فقط لغيابها. وأما التحسينيات فهى ترجع إلى مكارم الأخلاق، فإذا ما غابت حادت حياة العباد عن النهج القويم السليم الذى تقضى به الفطر السليمة.
ولقد جاء التشريع الإسلامى بما يحفظ هذه المصالح الثلاث من جانبى الوجود والعدم، أى بما يقيمها ويبقيها ولا يعرضها للزوال، فمثلًا شرع لحفظ الدين العبادات والجهاد الذى يدفع به عن كل ما يمكن أن يعرضه للفوات من اعتداء العدو، وشرع لحفظ النفس الأكل والشرب من الطيبات التى خلقها الله لعباده، وكذا شرع القصاص لدرء ما يعرضها للفوات، فقال تعالى (ولكم فى القصاص حياة).
أما بالنسبة للحاجيات فقد شرع لها الرخص عند المشقة، حيث شرع الطلاق لإنهاء حياة زوجية ضاع الوفاق فيها بين الزوجين، ولا يمكن استمرار الحياة بينهما إلا بعسر شديد، كما شرع الدية فى القتل الخطأ على عاقلة القاتل، أما بالنسبة للأمور التحسينية فقد شُرعت الطهارة للبدن والثوب، وستر العورة، وأخذ الزينة عند كل مسجد، والنهى عن بيع الإنسان على بيع أخيه، والنهى عن قتل الأطفال والنساء فى الحروب، إلى آخر المنظومة التى يرفعها أهل العلم من علماء الشريعة.
ولقد أحسن الإمام ابن القيم حين قال جامعًا لكل المعانى المتقدمة، والتى هى حقيقة الشريعة، فقد قال عن الشريعة: «مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد فى المعاش والمعاد، وهى عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه».
وإذا كانت الشريعة تقوم على العدل والرحمة، ومراعاة مصالح العباد، فعلى الخطاب الدينى أن يتسم بروح هذه الشريعة بمراعاته مصالح العباد، فالشريعة الإسلامية وما جاءت به من أحكام صريحة، أو أحكام اجتهادية فى ضوء موازين الاجتهاد الصحيح لا يمكن أبدًا أن تضيق بمصالح العباد فى أى زمان ومكان.
د. شوقى عبدالكريم علام يكتب :من خصائص الخطاب الدينى.. مراعاة مصالح العباد..نريد خطاباً إسلامياً يؤكد أن الشريعة حرصت على جلب المصالح للعباد فى الدنيا والآخرة
السبت، 17 مايو 2014 08:57 ص