هل فكرت لحظة.. لماذا يعشق الأطفال أفلام إسماعيل ياسين؟ وهل خطر ببالك أن الأمر لا يقتصر على الأطفال المصريين فقط، لكنه يمتد إلى جميع الأطفال العرب؟.. لقد أثبت إسماعيل ياسين أنه يمتلك موهبة متفجرة قادرة على إضحاك الأطفال من قرن إلى آخر، وهو أمر لم يحدث من قبل فى تاريخنا الفنى، وسأشرح لك السر الكامن وراء ذلك فى السطور التالية.
فى البداية تعالوا نتعرف على ما تيسر من حياة إسماعيل ياسين ومأساته.. أجل، فقد بدأت حياته بفجيعة، وانتهى عمره بمأساة!
.jpg)
البداية البائسة
فى 15 سبتمبر 1912 ولد إسماعيل ياسين فى مدينة السويس، وقبل أن يكمل عامه العاشر توفيت والدته، ودخل أبوه السجن بعد أن أفلس محل الصاغة الذى يمتلكه، وهكذا وجد الصبى إسماعيل نفسه وحيدًا، فترك المدرسة قبل أن يحصل على الشهادة الابتدائية، وعمل مناديًا أمام محل لبيع الأقمشة يعدد مزايا القماش، ويغرى المارة والعابرين على الشراء!
هذه المأساة المروعة لم تمنع الفتى المسكين من أن يتلقى فى روحه نفحة الفن والانشداد إلى عالم الموسيقى والغناء، وهكذا وجد نفسه مفتونًا بأغنيات عبدالوهاب الذى سطع نجمه فى النصف الثانى من عشرينيات القرن الماضى، وقد ظن إسماعيل أنه قادر على ترديد أغانى مطرب الملوك والأمراء فى حفلات الزفاف التى كانت تقام فى السويس، وبالفعل كان يصعد على خشبة المسرح المعد كيفما اتفق، وما أن يشرع فى أداء الأغنيات العاطفية لعبدالوهاب حتى يضج الجمهور بالضحك!
.jpg)
لماذا؟
لأن ملامح إسماعيل عديمة التناسق وأقرب إلى الكاريكاتير، فحاجباه مقرونان كثيفان، وعيناه شبه ناعستين، أما فمه فواسع جدًا.. كل ذلك يفاقم من الشعور بالمسحة الكوميدية، وهكذا لم يتعاطف الجمهور مع أجواء الغرام واللوعة التى تضج بها أغنيات عبدالوهاب حين شدا بها «مطرب» مزود بملامح كاريكاتورية!
الانطلاق نحو المجد
بذكائه الحاد انتبه إسماعيل إلى أنه لا يصلح للغناء العاطفى، إنما قد يجد حظًا أوفر إذا قدم المونولوجات الغنائية التى تسخر من تصرفات بعض الناس وتنتقدهم، خاصة الأثرياء والبخلاء والكذابين، فراح يقلد مونولوجات حسن المليجى، النجم الشهير آنذاك، فحقق بذلك شهرة معقولة حرضته على أن يركب قطار المغامرة، ويهجر السويس ليأتى إلى عاصمة المجد والشهرة.
فى القاهرة عمل إسماعيل ياسين وكيلًا فى مكتب محام يعشق الفن والغناء، فكان هذا المحامى يصطحب ابن السويس إلى شارع عماد الدين، وما أدراك ما شارع عماد الدين فى ثلاثينيات القرن الماضى؟ إنه شارع مكتظ بفرق مسرحية وصالات رقص وغناء، حيث يصول ويجول يوسف وهبى، ونجيب الريحانى، وعلى الكسار على خشبة المسرح، بينما ترقص بديعة مصابنى، وببا عز الدين، وتحية كاريوكا فى الصالات التى تستضيف نجوم فن المونولوج، أمثال سيد سليمان، وحسن المليجى، وحسين إبراهيم، وغيرهم. وسرعان ما أدرك إسماعيل أن مستقبله مرهون بفنون المونولوج حين حاول أن يقلد عبدالوهاب فى القاهرة، وأخفق إخفاقًا شديدًا. نقطة الانطلاق بدأت من كازينو بديعة «كان يقع مكان شيراتون القاهرة حاليًا»، وهذا الكازينو عمل به معظم نجوم الغناء والرقص قبل أن يتألقوا فى فضاء السينما، مثل فريد الأطرش، ومحمد فوزى، ومحمد عبدالمطلب، وكارم محمود، وعبدالعزيز محمود، وتحية كاريوكا، وسامية جمال، ومحمود شكوكو، وأخيرًا إسماعيل ياسين الذى استمع إلى نصيحة شاعر العامية الزجال «أبوبثينة» فى ضرورة أن يهجر أغنيات عبدالوهاب ويقدم المونولوجات فقط!
.jpg)
بخفة ظله وروحه الكاريكاتورية ومرحه على الخشبة تمكن إسماعيل ياسين من أسر الجمهور، وهو يؤدى مونولوجاته الخفيفة فى الصالات المنتشرة فى شارع عماد الدين حتى التقطه المخرج فؤاد الجزايرلى ليقدمه فى فيلم «خلف الحبايب 1939» بطولة أبيه الممثل فوزى الجزايرلى «المعلم بحبح».
على الفور حقق إسماعيل حضورًا على الشاشة فى أول أفلامه، ووفقا لما كتبه كمال رمزى فى مجلة «فن» البيروتية قبل ربع قرن تقريبًا «قدم إسماعيل ياسين أكثر من 300 فيلم، واشترك عام 1949 فى 14 فيلمًا، ووصل الرقم فى العام التالى 1950 إلى 17 فيلمًا.. وتنقسم أفلام إسماعيل ياسين إلى قسمين: أولها يمتد من عام 1939 إلى عام 1950 حين كان يؤدى الدور الثانى، أو الدور المساعد، فيضفى على الأفلام طابعًا محببًا من الحيوية والمرح، خصوصًا إذا كانت بطولة الفيلم لمطرب يعوزه التمكن من التمثيل، أما القسم الثانى فيقوم فيه بدور البطولة المطلقة وفيه حقق بعض النجاح».
إسماعيل وثورة يوليو
من أغرب الأحداث التى مرت فى حياة إسماعيل ياسين أنه أول من قدم أفلامًا تحتفى بثورة يوليو 1952، أو بتعبير أدق تحتفل بالجيش الذى قاد هذه الثورة، فقد ظلت السينما المصرية متحفظة تجاه ما حدث ليلة 23 يوليو لمدة ثلاث سنوات تقريبًا، فلم تحاول أن تخوض من قريب أو بعيد فى هذا الحدث الجلل حتى جاء إسماعيل ياسين وقدم «إسماعيل ياسين فى الجيش» للمخرج فطين عبدالوهاب، فى 23 يناير 1955، ليكون أول الأفلام التى تنتصر للجيش المصرى، وتدعم بشكل غير مباشر ما قام به فى الليلة المشهودة، حتى إن كان فى إطار كوميدى طريف.
.jpg)
بعد ذلك توالت الأفلام التى قام ببطولتها إسماعيل ياسين من أجل الثناء على أفرع القوات المسلحة، ودورها وجديتها، مثل الطيران والأسطول، ثم انتقل إلى دنيا البوليس والمباحث ينشر الأفكار التى تعزز دور المؤسسات العسكرية والشرطية فى الدفاع عن الوطن، والحفاظ على أمن الشعب. حقق إسماعيل نجاحًا مدهشًا فى عقد الخمسينيات لدرجة أن المخرجين والمنتجين تجرأوا واستثمروا اسمه ليتصدر اسم الفيلم لكسب المزيد من الأرباح، حتى صار «إسماعيل ياسين فى..» ماركة مسجلة لأسماء العديد من الأفلام أظنك تعرفها أكثر منى، وهو مجد لم يحظ ببلوغه فى تاريخ السينما قبله إلا اثنان: الأول، الممثل المصرى اليهودى شالوم الذى أطلق اسمه على بعض الأفلام مثل «شالوم الرياضى/ شالوم الترجمان»، والثانية، ليلى مراد صاحبة الأفلام الشهيرة التى تبدأ باسمها مثل «ليلى بنت الفقراء/ ليلى بنت الأغنياء/ ليلى بنت الأكابر».
غلطة إسماعيل الكبرى
لم يفهم إسماعيل ياسين أبدًا أن الثورة التى كان أول من احتفى بها سينمائيًا هى التى ستطرده– دون قصد– من جنة النجومية بعد سنوات قليلة، إذ إنها ستغير مزاج الملايين وتنمّى ذائقتها، الأمر الذى سيجعلهم يتعاملون مع أفلامه وطريقته فى الأداء باستخفاف، فمع مطلع الستينيات كانت مصر تتغير بقوة، وكانت غالبية جمهور السينما من المتعلمين الذين زادوا بالآلاف عندما جعل عبدالناصر التعليم بالمجان، وهكذا ارتفعت ذائقة المصريين، فنفروا من إسماعيل وأفلامه «الرتيبة الساذجة»، وانحازوا إلى فؤاد المهندس، وعبدالمنعم مدبولى، فحاول النجم المنبوذ أن يستعيد مجده الضائع، فأسس فرقة مسرحية باسمه عام 1954 قدمت 51 مسرحية فى 12 سنة، وكالعادة لم ينتبه النجم – غير المتعلم – إلى التغييرات الهائلة التى حدثت فى المجتمع المصرى، وظل على نهجه القديم فى الأداء الساذج والطرح المفكك، فانصرف عنه الجمهور، وخسرت الفرقة 45 ألف جنيه «أيام كان الجنيه جنيهًا» كما يقول كمال رمزى فى مقالة إياه!
أجل.. تكسرت النصال على النصال، وزادت مصائب إسماعيل ياسين، وفقد العمارة التى بناها بعد أن وضعت مصلحة الضرائب يدها عليها لأنه لم يسدد ديونه، وهكذا هاجر إلى لبنان بحثًا عن عمل لائق هناك، فلم يلق الحفاوة المرجوة، فعمل فى الإعلانات التليفزيونية بعض الوقت ليعود إلى القاهرة حزينًا موجوعًا، فلفظته السينما التى تجاوزت طريقته فى الأداء بمراحل، فيقبل مضطرًا القيام بتقديم المونولوجات فى شارع الهرم!
.jpg)
إسماعيل والأطفال
ألم أقل لك فى بداية المقال إن حياته بدأت بفجيعة وانتهت بمأساة؟، ومع ذلك فالرجل مازال حاضرًا حتى الآن فى ابتسامة كل طفل مصرى وعربى، لأنه استطاع أن يرصد مشاعر الطيبة والبساطة بتفرد، كما أنه – وهذا هو الأهم – تمكن من التعبير عن أحاسيس الخوف بأسلوب بالغ الطرافة والصدق لدرجة تجعله يستغيث بوالدته فيصرخ «يا أمه»، وهنا بالضبط يكمن سر التفاعل العجيب بينه وبين الأطفال، فالطفل تنتابه مشاعر خوف بطبيعة الحال، فيلوذ بأمه، وحين يشاهد فى الفيلم رجلًا كبيرًا طيبًا يخاف مثله فلا شك أنه سينفعل به ويحبه ويتعاطف معه.
لقد كانت دهشتى عظيمة وأنا أعمل فى دبى حين كنت أفاجأ بأن الأطفال السوريين والفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين يعشقون إسماعيل ياسين، ويتلهفون على رؤيته، ويقهقهون من القلب حين يخاف ويرتعب، فأيقنت أن الفنان الأصيل الموهوب قادر على الحياة حتى بعد رحيله، وقد مات إسماعيل فى 24 مايو 1972، لكنى آثرت أن أكتب عنه اليوم 16 مايو لأن العدد المقبل سيكون من نصيب فاتن حمامة، وما أدراك ما فاتن حمامة؟
.jpg)
.jpg)
.jpg)
موضوعات متعلقة..
نجمات الدرجة الثالثة فى سينما الأبيض والأسود رفيعة الشال أم حليم فى «الوسادة الخالية» رائدة الإذاعة وصاحبة أشهر جملة إذاعية «يا ترى أنت فين يا مرزوق»
«مصر تحت حكم بونابرت» كتاب يكشف عذابات الحملة الفرنسية فى مصر..أهمية هذا الكتاب تكمن فى تناوله المواجهة السياسية والعسكرية والثقافية التى وقعت بين الفرنسيين والمصريين
كلية الفنون الجميلة.. مستودع الرقة والإحساس والخيال..أشهر خريجى الكلية «مختار» صاحب تمثال «نهضة مصر»