لم أكن أتوقع أن تكون هناك ليبرالية بأدوات فاشية، هذا ما شهدته وعشته فى ظل الليبراليين الجدد فى مصر فإذا كانت الليبرالية فى أبسط صورها تعنى الحرية، فإن ذلك يعنى بالضرورة أن الإنسان يخرج إلى هذه الحياة فردًا حرًا له الحق فى الحياة، وله الحق فى الحرية وله الحق فى الفكر والمعتقد والضمير أى: له الحق فى الحياة كما يَشاء ـ
بفتح الياءـ هو ووفق قناعاته، لا كما يُشاءـ بضم الياء ـ له. لأن الفرق بين المشيئتين هو الفرق بين الأنظمة الليبرالية وغيرها من الأنظمة الأخرى. إذن لا محل مع الليبرالية لفرض قناعات معينة على الإنسان الفرد. حتى فى مجال العلاقة بين الليبرالية والأخلاق، أو الليبرالية والدين، فإن الليبرالية لا تلتفت ولا تهتم ولا تأبه من قريب أو بعيدـ لسلوك الفرد ما دام محدودًا فى دائرته الخاصة من الحقوق والحريات، فالليبرالية تتيح للشخص "الفرد" أن يمارس حرياته ويتبنى الأخلاق التى يراها مناسبة. ومن هنا فإن فرض قناعات معينة على الفرد يتنافى ويتناقض مع الأصل الفلسفى لليبرالية من ناحية، ويعد استخدامًا لأدوات فلسفة "أنظمة" تناهضها الليبرالية من ناحية أخرى. وهذا الفرض قد يكون ماديًا، وقد يكون معنويًا، أو ماديًا معنوياً معاً. والواقع أن الليبراليين المصريين يقعون فى هذا الفخ إما نتيجة انفصام الشخصية الذى يعانون منه نتيجة حالة التغريب الناشئة عن قناعاتهم الفكرية، وواقعهم النفسى "الاجتماعى" "الاقتصادى" الذى يعيشون به، ومن خلاله فى مجتمعاتهم، أو نتيجة الولاءات الإرادية لمنشأهم الفكرى على حساب الولاء للوطن أو أن تبنيهم للاتجاه الليبرالى، باعتباره وسيلة للاتجار بها فى سوق النخاسة الفكرية.
هؤلاء الليبراليون يسعون بملء إرادتهم لتزييف الواقع تمهيدًا لتكسير الوعى الجمعى وتفتيته وإعادة صياغته على نحو يتوافق وهذا الواقع المزيف. ومن ثم يصبح الوعى المزيف هو المرجعية لخلق إدراك مزيف، ووجدان مزيف يصدر عنهما سلوك منحرف يتصادم مع حقائق الأشياء/ القيم/ الواقع/ مصلحة المجتمع/ الدولة. وقد ذهب أحدهم إلى القول بأن الأغلبية الساحقة من المصريات والمصريين ـ مقدماً المؤنث على المذكر كتقليد غربى محض ـ يتعرضون لقصف إعلامى مكثف. . لماذا؟ . ليروج زيفاً لجدية وتنافسية مشهد الانتخابات الرئاسية القادمة. وقد تجاهل هذا الليبرالى حقائق سابقة انتزعها من السياق العام حتى يبدو كلامه صحيحاً ومقارباً للحقيقة، لأن التفكير الآنى فى السؤال منزوعاً من السياق قد يعطى هذا الانطباع. والسياق العام يقول إن الانتخابات الرئاسية القادمة ستجئ بعد مظاهرات 30 يونيه غير المسبوقة فى التاريخ البشرى، ثم 3، 26 يوليه، ثم الخروج فى الاستفتاء على الدستور، وكان هذا الخروج الجماهيرى الحاشد خروجًا إرادياً دون قصف إعلامى أو محاولة لتزييف الوعى. ولا يدرى أحد إن كانت الجماهير ستحتشد للانتخابات الرئاسية القادمة أم لا، وإن كان الرهان على وعى الشعب فى هذه القضية محسومًا.
إذن فالانتخابات جدية وتنافسية رغم هذه الفرية. وقد سيقت هذه الفرية لتبرير الهجوم التالى لها على المؤسسة العسكرية "الهدف". لذا سنجده يذهب إلى القول أن هذا القصف الإعلامى المكثف، يتجاهل فى ذات الوقت الحقائق الكبرى التى تحيط بهذه الانتخابات، فما هى تلك الحقائق؟ . الحقيقة الأولى: ترشح وزير الدفاع السابق للرئاسة بعد أن تدخلت المؤسسة العسكرية فى السياسة فى يوليو 2013 م. وهذا الليبرالى يتجاهل حقيقة اعترفت بها أمريكا حين وصَّفت ما حدث فى يونيه ليس باعتباره انقلاباً عسكرياً أفضى إلى تدخل المؤسسة العسكرية فى السياسة، وإنما انقلاب شعبى ساندته المؤسسة العسكرية تجنباً لوقوع حرب أهلية بين المصريين، وهى مسألة تتعلق بالحفاظ على الأمن القومى المصرى لا علاقة لها بالسياسة، وإنما عمل مهنى يعد من صميم اختصاص القوات المسلحة. أما ترشح وزير الدفاع السابق للرئاسة فهى مسألة تتعلق بحقوقه الشخصية المكفولة له دستورياً وقانونياً طالما أنه قد أصبح سابقاً. والرؤساء من ذوى الخلفيات العسكرية لا تخلو منهم بلاد منشأ الليبرالية.
والحقيقة الثانية: سيطرة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية على الحكم وتحالف النخب الاقتصادية والمالية معها. ولا أدرى متى حدث هذا؟ . ففى أعقاب الإطاحة الشعبية بالإخوان تم إعلان خارطة المستقبل، وتولى رئاسة البلاد رئيس المحكمة الدستورية، وتم تشكيل حكومة مدنية . فمتى حكمت المؤسسة العسكرية؟ إن كان قد حدث هذا فقد حدث فى أعقاب الثورة الأولى التى تولى فيها المجلس العسكرى تسيير أمور البلاد طوال الفترة الانتقالية. هذه الفترة التى نشط فيها الليبراليون أيما نشاط، وشكلوا أحزابًا سياسية، وشاركوا فى اللعبة حتى نهايتها، وكانوا سعداء بالعمل فى ظلال حكم المجلس العسكرى، وكانوا هم الطرف الثالث فى التحالف بين المجلس العسكرى والنخب الإقتصادية والمالية. الحقيقة الثالثة: انتهاكات واسعة للحقوق والحريات، وأعمال إرهابية متتالية تنهك الدولة والمجتمع وتساعد على فرض فاشية الرأى الواحد والصوت الواحد والموقف الواحد ومرشح الضرورة/ البطل المنقذ بثنائية من ليس معنا فهو ضدنا، وهى حقيقة زائفة لأن الطرف الثانى فى المعادلة لم يرضخ لإرادة الشعب كما رضخ النظام الأسبق، وإنما وضع نفسه فى خصومة ليست سياسية وإنما خصومة دينية، وليس مع النظام والدولة فحسب، وإنما مع المجتمع. وتجاوز حدود المظاهرات السلمية إلى المظاهرات المسلحة التى شاهدناها على شاشات التلفاز ومواقع التواصل الإجتماعى، وليس مع العين أين كما يقال. وتحول اعتصامهم السلمى إلى اعتصام مسلح، وبؤرة صديدية فى جسد الدولة لا شفاء منها إلا باستئصالها، لسعيها الدؤوب لتشكيل دولة موازية للدولة المصرية.
وهنا يبرز السؤال: مَن ينتهك حقوق مَن فى تلك اللعبة السخيفة التى تحاول فرض المسخ على الدولة. وهل كان البديل الوحيد المتاح لمن فشل سياسياً أن يفرض إرهاباً على الدولة والمجتمع؟ . ومع ذلك فإن هذه الأوضاع لم تفرض ما ذُكر من نتائج، وإنما العكس هو الصحيح. فإذا تناولت وسائل الإعلام هذه الحقائق، ونقلتها نقلاً حياً، عملاً بحق المواطن فى المعرفة وتداول المعلومات، نقول بأنها تقصف العقول لتزيف وعيها. وبعد ذكر ما زعم الليبرالى من حقائق يذهب إلى القول بأن هذه الحقائق تجرد المشهد الانتخابى من الجدية والتنافسية. أما تجريدها من الجدية فيرجع إلى عدم تكافؤ الفرص بين المرشحين من ناحية، وانحياز الدولة ومؤسساتها لمرشح بعينه من ناحية أخرى. أما تجريدها من التنافسية فمرده انعدام عدالة القوانين، وغياب نزاهة الإجراءات. وفى هذا الكلام مصادرة على المستقبل، وأعتقد أن الواقع حتى الآن يدحض هذه الفرى، حيث الفرص بين المرشحين متكافئة بلا انحياز من الدولة أو مؤسساتها. فضلا عن نزاهة الإجراءات. ومن ثم فلا محل لما ذهب اليه الليبرالى/ النموذج/ المثل من وقائع متوهمة، بنى عليها أدواته القمعية الفاشية التى لا تتوافق مع أصوله الليبرالية. أم أن الأمر تجاوز حدود القناعات الأيديولوجية إلى ما وراء الأيديولوجيات من أجندات مدفوعة الثمن.
حسن زايد يكتب: الليبرالى النموذج والوقائع المتوهمة
الأربعاء، 14 مايو 2014 06:05 م
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة