عطر الأحباب.. عبدالحليم حافظ الظاهرة الفريدة فى الغناء العربى..أغنياته خاطبت الطلاب بلهجة قاهرية ناعمة ورومانسية جمعت حوله ملايين المعجبين

الأربعاء، 09 أبريل 2014 04:48 م
عطر الأحباب.. عبدالحليم حافظ الظاهرة الفريدة فى الغناء العربى..أغنياته خاطبت الطلاب بلهجة قاهرية ناعمة ورومانسية جمعت حوله ملايين المعجبين عبد الحليم
إشراف ناصر عراق

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لماذا حقق عبدالحليم حافظ كل هذا الحضور طوال فترة حياته؟ وكيف لنا أن نفهم هذه الظاهرة العجيبة فى حياتنا الفنية برغم أن صوته لم يكن بالقوة التى تمتع بها مطربون آخرون عاصروه وحاولوا منافسته فأخفقوا؟

تعالوا أقص عليكم نبأ هذا الفنان المتفرد لنوضح دور الظروف الاجتماعية والسياسية والفنية فى تعزيز مكانته وتأكيد موهبته، ليصبح أشهر مطرب مصرى وعربى فى القرن العشرين.

البداية مع.. لقاء
فى عام 1951 استمع الجمهور للمرة الأولى إلى صوت عبدالحليم فى الإذاعة المصرية، حيث شدا بأغنية «لقاء» وهى قصيدة من الشعر العمودى كتبها الشاعر الرائد صلاح عبدالصبور، ولحنها كمال الطويل. كان حليم آنذاك قد بلغ 22 عامًا «هو مولود فى 21 يونيو 1929»، لم تحقق الأغنية نجاحًا يذكر، لكن لا حليم ولا صلاح ولا الطويل شعروا باليأس، بل راح كل منهم يزيد من معارفه ويصقل موهبته بالكد والدراسة، وفى ظرف أعوام قليلة استمع الناس إلى أغنيات لعبدالحليم أعجبتهم، لكنها لم تمنحه المقام المحمود الذى يرغب فى الوصول إليه، من أهم هذه الأغنيات «يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا أسمر/ ظالم/ يا مواعدنى بكرة/ صافينى مرة»، فلما جاء عام 1954 فوجئ الجمهور بعبد الحليم يشدو بأغنيتين جديدتين لعبد الوهاب هما «توبة/ وأهواك» فأقبل على سماعهما بآذان رحبة واهتمام كبير، ومع ذلك لم يصعد النجم الشاب إلى السماء، كما كان يحلم إلا حين غنى «على قد الشوق اللى فى عيونى يا جميل سلم» فى عام 1955، فتلقاها المستمعون بشغف، ومن يومها وعبدالحليم يتبوأ عرش قلوب المصريين والعرب بجدارة وحتى رحيله فى 30 مارس 1977.

المناخ العام
من المصادفات العجيبة أن نجومية حليم ترافقت تمامًا مع صعود نظام يوليو 1952، فقد تكاتف حليم والنظام بصورة مدهشة لدرجة يمكن عنها القول، إنه لولا يوليو ما كان حليم قد علا وسما إلى هذه المكانة، ليس بسبب أغنياته الوطنية التى مجدت ثورة يوليو وزعيمها فحسب، وهى أغنيات صادقة وبديعة حقا، وإنما لظروف أخرى متنوعة سأشرحها توًا.

أنت تعلم أن عبدالناصر استجاب لمطلب عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين بأن جعل التعليم بالمجان، فالتحق بالمدارس الثانوية والجامعات آلاف الطلاب بدءًا من منتصف خمسينيات القرن الماضى، هؤلاء الطلاب هم الجمهور الأول والأساسى لعبدالحليم، خاصة طلاب القاهرة، لأن مطربنا لا يشدو إلا باللهجة القاهرية فى المقام الأول، وأنت تعلم أيضا أن الطلاب تتراوح أعمارهم عادة بين الخامسة عشر والخامسة والعشرين، وهى السن التى يسبح فيها صاحبها/ صاحبتها فى عالم الخيال والرقة والرومانسية، من هنا حدث التواصل العجيب بين «مطرب العواطف»، وبين ألوف ثم ملايين الطلاب فى القاهرة وبقية المدن العربية، وتمدد هذا التواصل خارج حدود الوطن، فبات حليم أنشودة الرومانسية لكل طالبة/ طالب يتلقى نصيبًا معقولا من التعليم الثانوى أو الجامعى. أضف إلى ذلك أن حماس الطلاب لعبدالناصر وسياساته كان جارفا، وأن خصامهم مع النظام الملكى كان عنيدًا، وقد أوتى عبدالحليم من الحظ الكثير، فقد ظهر على الملأ بعد انهيار النظام الملكى، ولم تسجل له أغنية يمتدح فيها فاروق أو أسرة محمد على من قريب أو بعيد، كما أنه لم يظهر قط فى أى فيلم من أفلامه «15 فيلما وثلث الفيلم» مرتديًا «الطربوش» الرمز الأشهر للعصر الملكى كله، بعكس جميع المطربين الذين سبقوه وزاملوه، من أول عبدالوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزى وإبراهيم حمودة وعبدالغنى السيد ومحمد عبدالمطلب وعبدالعزيز محمود وكارم محمود وغيرهم، فكل هؤلاء «تلوثت» صورتهم بالطربوش أو غنوا فى أفلامهم وصورة الملك فاروق تتألق فى خلفية المشهد الذى يتصدرونه!

لقد لاح عبدالحليم للجمهور نقيًا خاليًا من جراثيم العهد الملكى، لا يسرى فى صوته أى ميكروب من زمن الباشوات، فأقبل عليه جمهور الثورة - الطلاب تحديدًا - بحماسة كبيرة وحب حقيقى.

لهجة القاهرة
دعنى أسألك.. هل يمكن أن يغنى حليم «يا ولاد بلدنا يوم الخميس/ هاكتب كتابى وابقى عريس/ والدعوة عامة/ وهاتبقى لمة» التى شدا بها محمد فوزى؟ أو هل يمكن أن يشدو بأغنية مطلعها «يا شبشب الهنا/ يا رتنى كنت أنا» التى اشتهر بها عبدالعزيز محمود «الذى يمكن وصفه من باب الطرافة بمطرب الجماد لأنه يغنى للأشياء الجامدة مثل يا تاكسى الغرام/ يا نجف بنور/ شباك حبيبى/ منديلى الحلو/ حب العزيز الربعة بقرش»؟ أو هل يمكن أن يهتف «تحت الشجر يا وهيبة يا ما كلنا برتقان؟» كما يتحسر محمد رشدى، أو يرجو من أصدقائه طالبًا «يا رايحين الغورية هاتوا لحبيبى هدية» كما تمنى محمد قنديل؟

إن كل هذه الأغنيات الجميلة موجهة لشريحة اجتماعية غير طلابية، بل شريحة قوامها ابن البلد أو بنت البلد أو الفلاح الأصيل أو الفلاحة المليحة، لذا من الصعب أن نتخيل عبدالحليم - مطرب المتعلمين - يخوض غمار الأغنية الشعبية، صحيح أن الغيرة الفنية جعلته يشدو بأغنيات مثل «أنا كل ما اقول التوبة/ أدهم الشرقاوى/ سواح» إلا أن هذه الأغنيات لم تكن هى الأساس الذى يتكئ عليه مجمل تجربة عبدالحليم الفنية.

المثير أن اللهجة القاهرية الطرية الناعمة كانت المعين الأول لصاحب «حبك نار»، كما أن الشعراء الذين كتبوا له استلهموا الأجواء الرومانسية التى تدغدغ مشاعر الطلاب وخيالاتهم، وسأذكر ببعض نماذج من كلمات أغنياته مثل «بتلمونى ليه/ لوشفتم عينيه/ حلوين أد إيه.. الشعر الحرير ع الخدود يهفهف»، أو «أهواك وأتمنى لو أنساك وانسى روحى وياك»، أو «أنا لك على طول خليك ليه»، «فى يوم من الأيام»، «أول مرة تحب يا قلبي»، وغير ذلك عشرات من الأغنيات التى تضج بمشاعر مشبوبة وأحاسيس متقدة كلها تناسب المزاج العام للطالب الهيمان.

الناجح يرفع إيده
المثير أن معظم الأفلام التى قام ببطولتها عبدالحليم لعب فيها دور طالب جامعة أو أنهى دراسته الجامعية باستثناء فيلم «دليلة 1956» الذى جسد فيه شخصية «كهربائى» ففشل الفيلم، ولم يحقق النجاح المأمول، الأمر الذى يؤكد أن فن حليم كان موجهًا لطلاب الجامعة بشكل رئيسى. تعال نسترجع أفلامه ونتذكر دوره فى كل فيلم «لحن الوفاء/ أيامنا الحلوة 1955 طالب جامعة»، «ليالى الحب 1955 موظف متعلم»، «أيام وليالى 1955 طالب جامعة»، «موعد غرام 1956 متعلم عابث يقع فى حب فاتن حمامة»، «بنات اليوم 1957 مهندس»، «الوسادة الخالية 1957 طالب»، «فتى أحلامى 1957 شاب مستهتر - لم ينجح الفيلم كثيرًا»، «شارع الحب 1958 طالب فى معهد الموسيقى»، «حكاية حب 1959 مدرس موسيقى ولهان»، «البنات والصيف 1960 - ثلث فيلم فقط لأن الفيلم يضم ثلاث حكايات متباينة بنجوم مختلفة - ظهر حليم بوصفه مهندسا عاشقا»، «يوم من عمرى 1961 صحفى عاشق»، «الخطايا 1962 طالب»، «معبودة الجماهير 1965 ممثل ولهان»، أما آخر أفلامه «أبى فوق الشجرة الذى عرض للمرة الأولى فى 17 فبراير 1969، فقد ظهر فيه عبدالحليم مجسدًا شخصية طالب جامعة بالرغم من أنه كان قد بلغ الأربعين عامًا.
لاحظ أن زملاءه ومنافسيه فى عالم الغناء كانوا يطلون على الناس من شاشة السينما فى أدوار شعبية، فعبدالعزيز محمود سائق تاكسى، ومحمد فوزى صياد، وكارم محمود صبى بقال إلى آخره.. إلى آخره!

عاشق الوطن
لا يمكن استيعاب ظاهرة عبدالحليم دون أن نعرج قليلا على إنجازه المدهش فى مجال الأغنية الوطنية، فالرجل كان ابنًا بارًا لثورة يوليو، وقد ربطته بقائد الثورة وأسرته أواصر محبة واقتناع، لذا لا عجب فى أن يصدح صوت حليم بأجمل الأغنيات التى صاحبت صعود نظام يوليو وانتصاراته - «صورة» أشهر وأفضل تلك الأغنيات - ولا غرابة فى أن ينشرخ إحساسه حين يتلقى النظام هزيمة قاسية فى عام 1967 «عدى النهار».. «النموذج المبهر».

إن إيمان عبد الحليم بيوليو وناصر يفسر لك إلى حد كبير كيف أنه لم يذكر اسم الرئيس الأسبق أنور السادات أبدًا فى أية أغنية، برغم أنه عاش سبعة سنوات كاملة فى ظلال عهد السادات، وحين انتصر الشعب المصرى فى معركة 1973 المجيدة وأعاد السادات افتتاح قناة السويس اكتفى عبدالحليم بأن امتدحه فى أغنية شاديًا «قالها الزعيم من غير ما يحلف/ عمر الزعيم ما يقول ويخلف».

اللافت للانتباه أن حليم بدأ مشواره بالغناء مع قصيدة فصحى لشاعر رائد هو صلاح عبدالصبور كما فات عليك، وأنهى هذا المشوار بقصيدة «قارئة الفنجان» لشاعر شهير هو نزار قبانى التى ترنم بها عام 1976، وما بين التاريخين عشقه الشعب كله، وإن كان الطلاب قد وضعوه فى أكرم ركن فى قلوبهم، أما الطالبات، فقد كان معشوقهن الأول، لذا لم يفاجأ كثيرون حين هرعت طالبة فى الثانوى إلى بيته عندما عرفت خبر موته، وألقت بنفسها من العمارة التى يقطن بها فى الزمالك تاركة رسالة دامعة لأسرتها ملخصها «مات حبيبى.. كيف يمكن أن تحلو الحياة بدونه؟».

بدلتى الزرقا لايقة فوق جسمى

“ ووفقا لما قاله ملحن الأغنية عبدالحميد توفيق زكى فى برنامج إذاعى قبل سنوات فإن تهور أجهزة الأمن دفعها لأن تطالب باعتقال الثلاثى حليم والمؤلف والملحن بوصفهم شيوعيين

ربما لا يعرف جيل هذه الأيام أن عبدالحليم حافظ كان على شفا حفرة من السجن حين قدم أغنيته الجميلة «بدلتى الزرقا لايقة فوق جسمى» التى كتبها الشاعر عبدالفتاح مصطفى ولحنها عبدالحميد توفيق زكى، وشدا بها العندليب فى عام 1956.
فى ذلك الوقت كان نظام يوليو قد حدد أنصاره واختار أعداءه، بناء على توجهاته الاجتماعية وانحيازاته الطبقية، فتعامل مع جماعة الإخوان بحدة حين كشرت عن أنيابها وسال لعابها على السلطة، ولعلك تذكر محاولتها الفاشلة فى اغتيال جمال عبدالناصر عام 1954، أما التنظيمات الشيوعية فقد ناصبت عبدالناصر العداء منذ البداية، فاعتقل النظام بعض المنتمين إلى هذه الأفكار عام 1955 «يوسف إدريس على سبيل المثال»، فلما قدم عبدالحليم أغنية «بدلتى الزرقا» عام 1956 التى يحتفى فيها بملابس العمال ويتغزل فى «البدلة الزرقا» التى يرتديها كل عامل، حينئذ استثمر الوشاة والجهلة والحقودون الأغنية ضد العندليب، وقالوا إنه يمجد الطبقة العاملة التى تعد الظهير القوى للشيوعيين، ووفقا لما قاله ملحن الأغنية عبدالحميد توفيق زكى فى برنامج إذاعى قبل سنوات فإن تهور أجهزة الأمن دفعها لأن تطالب باعتقال الثلاثى حليم والمؤلف والملحن بوصفهم شيوعيين، ولولا تدخل عبدالناصر لارتدى عبدالحليم زى المساجين!

يقول مطلع الأغنية:

بدلتى الزرقا لايقة فوق جسمى
فى جمال لونها مركزى واسمى
بدلتى الزرقا من نسيج إيدى
لبسها يزينى حتى يوم عيدى
مش مفارقانى برضه ساترانى
حافظة مقدارى ليلى ونهارى
بيها ترسمنى يعجبك رسمى

وداد حمدى.. خفة ظل بلا حساب

فى 26 مارس عام 1994 ذبحت وداد حمدى.. ذبحها «ريجيسير نذل»، استغل معرفته بها، ودخل منزلها من الباب ليقترف جريمته الشنيعة، بحثًا عن أموال كثيرة ظن أنها تحتفظ بها فى مكان ما بشقتها، لكن لأن وداد حمدى بنت بلد «حويطة» وذكية، فلم يجد القاتل شيئًا، وكأنها أرادت أن تسخر من غبائه، وهى تلفظ أنفاسها بين يديه!
تلقت وداد «مولودة فى 3 يوليو 1924» علوم التمثيل فى معهد الفنون المسرحية الذى أسسه الرائد زكى طليمات فى عام 1945، حيث كانت ضمن الدفعات الأولى، وعرفت الطريق إلى السينما مبكرًا.. فلعلك تذكر حضورها البسيط فى فيلم «أحمر شفايف 1946 لنجيب الريحانى»، إذ لعبت دور عاملة فى «الفابريكا» التى يديرها الريحانى، وتزاملها سامية جمال.

لوداد حمدى رصيد معتبر فى بنك السينما، وأظنك تعرفه أكثر منى، لكنى أستسمحك بتذكر أدوارها فى أفلام ثلاثة، هى على التوالى «ورد الغرام/ عرض فى 10 ديسمبر 1951، للمخرج بركات»، وفيلم «الحموات الفاتنات/ عرض فى 26 أكتوبر 1953 للمخرج حلمى رفلة»، وفيلم «الزوجة 13/ عرض فى 5 مارس 1962»، فى هذه الأفلام الثلاثة لعبت وداد دور الخادمة بمهارة لافتة، صحيح أنها تقمصت شخصية الخادمة مرات كثيرة، لكنها هنا - بمكرها وذكائها وطمعها المفهوم - تؤثر فى مسار الأحداث، وتجعلها تسير وفق ما يخدم مصالحها.

كل ذلك بأسلوب رشيق لا يجعلنا نكره الشخصية، أو ننفر منها، بل يدفعنا إلى التعاطف معها، والتجاوب مع مكرها وحيلتها فى لم شمل حبيبين أو تفريق زوجين!
فى هذه الأفلام الثلاثة نلمس بسهولة مقدرة وداد على اصطياد شخصية الخادمة المصرية فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى من خلال نبرات صوتها العالية، وأدائها السريع الذى يتوافق مع إيقاع حركتها المترع بالعفوية، كذلك نلاحظ طريقة ملابسها الشعبية، أو توددها المزيف أحيانًا لمخدومتها من أجل الظفر بفستان قديم أو حذاء مستعمل.

من فضلك.. تأمل وداد حمدى فى أفلامها وابتسم.. واضحك.. وترحم عليها والعن قاتلها!





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة